هل تحتفظ الأم بحضانة طفلها إذا تزوجت من غير أبيه، وإذا انتقلت الحضانة إلى غيرها هل يجوز لهذا الغير منعها من رؤية طفلها؟
ويجيب عن هذا السؤال الأستاذ الدكتور / شوقي إبراهيم علام
الحقُّ في الحضانة مِن آكد حقوق الطفل في الشريعة الإسلامية، وأصل مادة (الحاء – والضاد – والنون): حفظ الشيء وصيانته، فالحِضْن ما دون الإِبِط إلى الكَشْح؛ يقال: احتضنت الشيء جعلته في حِضْني، ومنه: حَضَنَتِ المرأةُ ولدَها، وحَضَن الطائرُ بيضَه حَضنًا من باب قتل، وحِضانًا بالكسر أيضًا: ضمه تحت جناحه. ينظر: “معجم مقاييس اللغة” لابن فارس (2/ 73، ط. دار الفكر)، و”المصباح المنير في غريب الشرح الكبير” للفيومي (1/ 140، ط. المكتبة العلمية).
والحضانة شرعًا هي: حفظُ من لا يستقل بأمور نفسه عمَّا يؤذيه، وتربيتُه بما يصلحه؛ كما هو مؤدَّى تعريف العلامة ابن عابدين الحنفي في “حاشيته” (3/ 555، ط. دار الفكر)، والإمام الدردير المالكي في “الشرح الكبير” (2/ 526، ط. دار الفكر)، والشيخ الشربيني الشافعي في “الإقناع” (2/ 489، ط. دار الفكر)، والإمام البهوتي الحنبلي في “الروض المُرْبِع” (ص: 627، ط. دار المؤيد ومؤسسة الرسالة).
والمدة التي لا يستغني فيها الطفل عن رعاية أمه، يكون الحقُّ في حضانته ثابتًا لها؛ يدلُّ على ذلك ما جاء عن عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم أن امرأةً قالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاءً، وثديي له سقاءً، وحجري له حِواءً، وإن أباه طَلَّقني، وأراد أن ينتزعه منِّي، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تنكَحِي، وَلَهُ الحقُّ في النفقةِ عَلَيهِ حَتَّى يَبْلُغَ» رواه أبو داود، فجعل النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم حضانة الطفل لأمه، وألزم والدَه بالإنفاق عليه.
والإناث أَلْيَقُ بالحضانة؛ فهنَّ أقدر مِن الرجال على رعاية المحضون في سن الطفولة والعناية به والصبر عليه وعلى احتياجاته والبقاء معه بما يكفي لحسن نشأته وصلاح نباتِه.
قال الإمام السرخسي الحنفي في “المبسوط” (5/ 207، ط. دار المعرفة): [اعلَم بأن الصغار لِمَا بهم من العجز عن النظر لأنفسهم والقيام بحوائجهم؛ جعل الشرعُ ولايةَ ذلك إلى من هو مشفقٌ عليهم: فجعل حق التصرف إلى الآباء؛ لقوة رأيهم مع الشفقة، والتصرف يستدعي قوة الرأي، وجعل حقِّ الحضانة إلى الأمهات؛ لرفقهنَّ في ذلك، مع الشفقة، وقدرتهنَّ على ذلك بلزوم البيوت، والظاهرُ أن الأم أحفى وأشفق من الأب على الولد، فتتحمل في ذلك من المشقة ما لا يتحمله الأب، وفي تفويض ذلك إليها زيادةُ منفعةٍ للولد] اهـ.
هذا، إذا لم تتزوج الحاضنة، أو تزوجت من ذي رحمٍ محرمٍ للمحضون، فإن تزوجت بغير ذي رحمٍ محرمٍ للمحضون فإن جمهور الفقهاء يَرَوْن سقوط الحضانة عنها؛ سواء كان المحضون ذكرًا أو أنثى؛ قال الإمام الحصكفي الحنفي في “الدر المختار بحاشية ابن عابدين” (3/ 565، ط. دار الفكر): [والحاضنةُ يسقُطُ حقُّها بنكاحِ غيرِ مَحرَمِهِ؛ أي: الصَّغير] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر المالكي في “الكافي في فقه أهل المدينة” (2/ 624، ط. مكتبة الرياض الحديثة): [الأم أولى بحضانة ولدها وبرضاعه من غيرها إذا طلقها زوجها أبدًا ما لم تتزوج، فإن تزوجت فالجدَّةُ أمُّ الأمِّ أولى إن لم يكن زوجها أجنبيًّا، فإن كانت متزوجة من أجنبي سقطت حضانتها، وكذلك كل امرأة تزوجت أجنبيًّا من الصبي يبطل حقُّها من الرضاع والحضانة] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في “روضة الطالبين” (9/ 100، ط. المكتب الإسلامي): [فلو نكحت أجنبيًّا سقطت حضانتُها؛ لاشتغالها بحُقُوق الزوج] اهـ.
وقال الإمام البهوتي الحنبلي في “كشاف القناع” (5/ 499، ط. دار الكتب العلمية) فيما تسقط به الحضانة: [ولا لامرأةٍ مُزوجةٍ لأجنبي من الطفل؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تُنْكَحِي»، ولأنها تشتغلُ عن حضانته بحق الزوج؛ فتسقُطُ حضانتُه] اهـ.
والذي عليه المحققون من الحنفية: أن زواج الحاضنة بغير ذي رحمٍ محرمٍ للمحضون لا يُسقط بمجرده حضانتَها عنه حتى يثبت للقاضي أن زواجها يضر بمصلحة المحضون؛ لأن مدار الحضانة على نفع الولد؛ قال العلامة ابن عابدين الحنفي في حاشيته “رد المحتار على الدر المختار” (3/ 565، ط. دار الفكر): [فينبغي للمفتي أن يكون ذا بصيرةٍ ليراعي الأصلح للولد، فإنه قد يكون له قريبٌ مبغضٌ له يتمنى موته، ويكون زوج أمه مشفقًا عليه يعز عليه فراقه، فيريد قريبه أخذه منها ليؤذيه ويؤذيها، أو ليأكل من نفقته أو نحو ذلك، وقد يكون له زوجة تؤذيه أضعاف ما يؤذيه زوج أمِّه الأجنبي، وقد يكون له أولاد يخشى على البنت منهم الفتنة لسُكناها معهم، فإذا علم المفتي أو القاضي شيئًا من ذلك لا يحلُّ له نزعه من أمه؛ لأن مدار أمر الحضانة على نفع الولد، وقد مر عن “البدائع”: لو كانت الإخوة والأعمام غير مأمونين على نفسها أو مالها لا تسلم إليهم] اهـ.
والمذهب الحنفي هو الجاري عليه العمل بالمحاكم فيما لم يرد فيه نصٌّ؛ طبقًا لنص المادة الثالثة من القانون رقم (1) لسنة 2000م المتعلق بإصدار قانون تنظيم بعض أوضاع وإجراءات التقاضي في مسائل الأحوال الشخصية، وفيها: [تصدر الأحكام طبقًا لقوانين الأحوال الشخصية والوقف المعمول بها، ويعمل فيما لم يرد بشأنه نصٌّ في تلك القوانين بأرجح الأقوال من مذهب الإمام أبي حنيفة] اهـ.
ومن ناحيةٍ أخرى، فإنَّ إسناد أمر الحضانة عند انفصال الزوجين إلى الأم ابتداءً إنما هو في حال عدم بلوغ الطفل سن التمييز، وهي السن الذي لا تتضح فيه معالم التربية والتعليم بِقَدْرِ مَا يكون التركيز فيها على التغذية والرعاية والحنان؛ قال الإمام النووي في “روضة الطالبين” (9/ 103): [إنما يُحكَم بأن الأم أحقُّ بالحضانة من الأب في حقِّ من لا تمييز له أصلًا، وهو الصغير في أول أمره، والمجنون] اهـ.
على أن تنمية الجانب العاطفي والتربوي في الطفل نحو الأب هو أمرٌ مهمٌّ قبل سن التمييز أيضًا، فلا ينبغي إغفاله.
فإذا بلغ الطفل سن التمييز وجب على الأم أن تتيح للأب تربية الصغير وتهذيبه وتعليمه وتنمية فكره بقَدْر ما يحتاج إليه في ذلك؛ فالحضانة عند الفقهاء لا يُقصَد بها الاستحواذُ على الصغير وحبسُه عن رعاية الطرف الآخر وقصرُ هذه الرعاية على الحاضن وحده، وإنما هي تعبيرٌ عن المكان الذي يقيم فيه الطفل ويبيتُ عادةً، ويأتيه الطَّرَفُ الآخَر من الوالدين زيارةً فيه على العادة الجارية بين الناس في أيام الزيارة؛ يقول الإمام أبو إسحاق الشيرازي الشافعي في “التنبيه” (ص: 211، ط. عالم الكتب): [وإن اختار أحدَهما سُلِّم إليه، وإن كان ابنًا فاختار الأم كان عندها بالليل وعند أبيه بالنهار، وإن اختار الأب كان عنده بالليل والنهار، ولا يُمنَع مِن زيارة أمه، ولا تُمنَع الأمُّ مِن تمريضه إذا احتاج، وإن كانت بنتًا فاختارت الأب أو الأم كانت عنده بالليل والنهار، ولا يُمنَع الآخرُ مِن زيارتها وعيادتها] اهـ.
ويقول الإمام النووي في “روضة الطالبين” (9/ 104-105): [الزيارة تكون في الأيام على العادة، لا في كل يوم.. فرع: إذا اختار الأم: فإن كان ابنًا أوى إليها ليلًا، وكان عند الأب نهارًا يؤدبه ويعلمه أمور الدين والمعاش والحرفة. وإن كانت بنتًا كانت عند الأم ليلًا ونهارًا، ويزورها الأب على العادة، ولا يطلب إحضارها عنده، وهكذا الحكم إذا كان الولد عند الأم قبل سن التخيير] اهـ.
ولما كان الابن في هذه المرحلة في حاجةٍ إلى أبيه بالقدْر الذي ذكره الأئمة وهو وقت النهار من كل يوم؛ نظرًا لمراعاة جانب التأديب والتربية الدينية والمهنية في الولد تلقِّيًا من أبيه، بخلاف البنت التي تستقي أكثر ذلك من أمها- أُعطِيَ الأب حق رؤية الابن كل يومٍ؛ تقديرًا لهذا الاحتياج، لكننا في العصر الحاضر نَجِدُ أنَّ شِقًّا كبيرًا مما كان يتولّاه الأب من التربية تضطلع به المؤسسات التعليمية والمهنية التي جرت العادة أن يلتحق بها الأبناء؛ فالزيارة والملاحظة من الأب قِلَّةً وكثرةً تُقدَّر بقَدْر الحاجة إليها.
وهذا الحقُّ مكفولٌ للأم أيضًا بقَدْر حاجة الابن إليها عندما يكون الأب هو المتولي لحضانته؛ كإباحة تمريضها له في بيتها، بل قد يستمر هذا التمريض أيامًا؛ إذ بالمرض يصير كالصغير في الحاجة إلى من يقوم بأمره؛ فكانت الأم أحق به في هذه الحالة.
ولم تقتصر كفالةُ هذا الحقِّ على الابن فحسب، بل هو حقٌ مكفولٌ للبنت أيضًا في رؤية غير الحاضن من والديها وزيارته لها لرعايتها والقيام بشؤونها وملاحظتها، والزيادة من ذلك بقدر حاجة البنت.
فالحضانة وتنظيمها إنما هي وسيلة لحمايةِ المحضون ورعايتِه، والقيامِ بحقوقه والعنايةِ بشؤونه، وعلى هذا المقصد قامت تنظيماتُها وتشريعاتُها وأحكامُها الفقهية، بل قد ارتقى الشرعُ بها مِن الحقوق إلى الواجبات، حتى إن الحاضنة إذا أرادت إسقاط الحضانة ولا حاضنَ غيرُها لا تسقط، وكل هذا حتى لا يضيع المحضونُ الذي هو الغايةُ والمقصدُ مِن تنظيم شؤون الحضانة، فليست الحضانة ساحةً لكيد أبيه ضدّ أمه ولا لِمَكر أمه بأبيه على حساب مصلحة المحضون، بل هي ولايةٌ للتربية؛ غرضها الاهتمامُ بالصغير وضمانُ مصلحته والقيـامُ على شئونه، أناطها الشرع الشريف بالأمن على المحضون في شخصه ودينه وخلقه، وجَعَلَها مجالًا جيدًا لتعويد النفس على العطاء والبذل وإنكار الذات.
وباستقراء كلام الفقهاء حول حقِّ الرؤية نجد أن غير الحاضن من الأبوين له الحقُّ في أن يقوم الآخر بإخراج المحضون له في مكانٍ يمكنه فيه النظر إليه بين الحين والآخر للاطمئنان على حاله ومتابعةِ شؤونه وسَدِّ متطلباته التي قد لا يستطيع الحاضنُ الإيفاءَ بها وحده، كما أن من مقاصد الرؤية صلة الرحم.
قال الشيخ ابن القيم الحنبلي في “زاد المعاد” (5/ 392، ط. مؤسسة الرسالة): [والولاية على الطفل نوعان: نوع يقدم فيه الأب على الأم ومَن في جهتها؛ وهي ولاية المال والنكاح. ونوع تقدم فيه الأم على الأب؛ وهي ولاية الحضانة والرضاع. وقُدِّم كلٌّ مِن الأبوين فيما جُعل له مِن ذلك لتمام مصلحة الولد، وتوقف مصلحته على من يلي ذلك من أبويه وتحصل به كفايته. ولَمّا كان النساءُ أعرفَ بالتربية، وأقدر عليها، وأصبر وأرأف وأفرغ لها؛ لذلك قدمت الأم فيها على الأب، ولما كان الرجالُ أقومَ بتحصيل مصلحة الولد والاحتياط له في البضع، قُدِّمَ الأبُ فيها على الأم، فتقديم الأم في الحضانة من محاسن الشريعة والاحتياط للأطفال والنظر لهم، وتقديم الأب في ولاية المال والتزويج كذلك] اهـ.
وعليه: فمدار الحضانة على مصلحة المحضون، وزواج الحاضنة بغير ذي رحمٍ محرمٍ للمحضون لا يسقط بمجرده حضانَتها ما لم يكن في بقائها ضررٌ بمصلحة المحضون، وَمَرَدُّ الأمر في ذلك إلى القاضي؛ فهو المُخَوَّل بالنظر فيما يتعلق بشأن الحضانة وما يترتب عليها؛ ليحكم بما يراه محققًا تلكَ المصلحة، وفي كل حالٍ لا يجوز شرعًا منعُ أيٍّ من الوالدين أو مَن يقوم مقامها من رؤية المحضون، ولا إيغارُ صدر الطفل على أيٍّ منهم بأيّ طريقةٍ كانت.
والله سبحانه وتعالى أعلم.