أقلام حرةعاجل

مقال للكاتب ” عبد المنعم سعيد ” تحت عنوان ( العائد الى القاهرة )

تركت الولايات المتحدة، بعد معركة انتخابية طاحنة كان فيها انتخاب أعضاء مجلس النواب، والتجديد النصفى لمجلس الشيوخ، وعدد من حكام الولايات الذين انتهت ولايتهم. عادة فإن هذه الواقعة تكون نوعا من التصويت على الفترة الرئاسية الجارية، وفرصة للحزب المعارض أن يعود مرة أخرى إلى الصورة، وحالة من البحث عن تجديد النخبة السياسية بأكملها. ولكن هذه المرة لم تكن الواقعة عادية على الإطلاق، فقد كان فيها شخص دونالد ترامب الذى غير الساحة الأمريكية، رغم مؤسسيتها الشديدة، وقلبها رأسا على عقب. فالذائع بين المحللين والمؤرخين أن السياسة الأمريكية قائمة على المؤسسات والفصل والتوازن فيما بينها، وأحيانا يكون موقف هؤلاء عائدا إلى الظروف والتركيبة الاقتصادية والاجتماعية القائمة، وفى حالات يكون الموقف الراهن هو المتحكم فى الرؤية والتحليل.

ماذا يجرى فى العالم وحولنا ولدينا؟!

دور الفرد كثيرا ما يتم تجاهله أو يكون نوعًا من تأكيد الشمول على أكثر تقدير. كل ذلك كان ممكنا فى كل المرات السابقة، ولكن عصر الرئيس الحالى اختلف فى الكثير من الأمور، فقد جعل السياسة على ما فيها من انفعالات مضافا إليها الشهرة والأداء والتأثير بالكاريزما حتى لا تظن أنك فى أخبار للدولة، وإنما فى فيلم كله إثارة وحركة ومقاطع للرعب. كانت المعركة ساخنة استخدمت فيها كل أساليب العالم المتقدم وألاعيب العالم المتأخر، واستدعى الطرفان كل أسلحتهم فى الدعاية والأيديولوجية، ولكن استدعاء باراك أوباما للساحة الانتخابية جعل المنافسة ليست فقط بين حزبين (الديمقراطى والجمهورى) أو بين أيديولوجيتين (الليبرالية والقومية)؛ وإنما أيضا بين رئيسين فى معركة لم يكن هذا موعدها الذى سوف يأتى فقط بعد عامين فى ٢٠٢٠.

كلا الطرفين اعتبر المعركة الانتخابية «تاريخية» لأنها فرصة للعودة إلى الأصول والقيم التاريخية، أو لأنها للدفاع عن الدولة من أقلية تنحرف بها من الليبراليين والإعلام فى الداخل، ودول تستغل الكرم الأمريكى فى الخارج. اختفت تلك « الكتلة الحرجة» من السياسيين المتفقين على ضرورة قيادة أمريكا للدنيا كلها، وحتى فى الفضاء الخارجى أيضا، وعلى أن السوق الحرة هى جوهر النظام الاقتصادى الأمريكى والمسلح فى نفس الوقت بمظلة الحماية الاجتماعية. كان فى الأمر كله استماتة ظهرت عندما نوه ترامب إلى أن باراك أوباما يوجد اسم «حسين» فى المنتصف بالإشارة إلى حرف H، ولم تكن هذه هى الضربة الوحيدة تحت الحزام من جانبه؛ ولكن أوباما لم يكن بالرجل الذى يدير خده الأيسر إذا ما ضرب خده الأيمن، فقد ذكر أنه أثناء فترة حكمه لم يقدم أحدًا للقضاء، بينما فى الإدارة التى تلته قدم إلى المحكمة ما يكفى ملعبًا لكرة القدم الأمريكية!

ولكن المعضلة أن المسألة كانت تاريخية بالفعل؛ بمعنى أن أمريكا صارت بالفعل فى مفترق الطرق، ما بين مسيرة استمرت منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن كانت فى معظمها انعكاسا «للصفقة الجديدة» التى أقرها روزفلت فى الداخل، والتحالفات الخارجية التى تقود العالم نحو الليبرالية والرأسمالية التى أسس لها ترومان ومن بعده أيزنهاور فى الخارج؛ ومسيرة أخرى جديدة، أو ليست جديدة تماما، تستدعى تاريخ ما بعد الحرب العالمية الأولى، حيث كانت العزلة والتدخلات الانتقائية فى الخارج، والرأسمالية بدون الليبرالية فى الداخل.

انتهت الانتخابات، وربما كانت نتائجها درسا قدمه الشعب الأمريكى للسياسيين، فالديمقراطيون عادوا فعلا إلى الملعب السياسى بالفوز بالأغلبية فى مجلس النواب؛ أما الجمهوريون، فقد احتفظوا بالأغلبية فى مجلس الشيوخ وزادوا عليها شيوخا آخرين. الديموقراطيون حازوا عددا أكبر من حكام الولايات، ولكن أغلبية الحكام ظلوا جمهوريين. استقر توازن القوى عند نقطة تسمح نظريا بالتفاوض، وأن تحل المساومة بديلًا عن الصراع، وهناك مساحات متصورة للتعاون فى بناء البنية الأساسية، والصفقة ما بين بناء السور مع المكسيك مقابل إعطاء المشروعية للحالمين Dreamers أى هؤلاء الصغار الذين جاءوا إلى الولايات المتحدة مصاحبين للأهل، ولكنهم لم يحصلوا على الجنسية. مجال الصفقات ليس بالقليل، ولكن ذلك ربما يحتاج نوعا آخر من السياسيين، وربما مناخا سياسيا مختلفا عما بات سائدا حتى المعركة الانتخابية، قوامه انه فى الديمقراطية لا ينبغى لأحد أن يهزم، ولا يجب على أحد أن يحصل على فوز كاسح. باراك أوباما بات يعتقد أن الحرب مستمرة، ولكن كسبها لا يكون فى معركة واحدة طالما ظل ترامب فى الحكم. مثل ذلك لم يصدر من قبل عن رئيس خارج السلطة تجاه رئيس مقيم فى البيت الأبيض، فالتقليtد كان أن الرئيس السابق حصل على الفرصة التاريخية للقيادة، وما عليه إلا أن يؤيد الرئيس الحالى أو ليصمت.

العائد إلى القاهرة عاش كل ذلك على مدار الساعة، بينما أخبار العاصمة المصرية كانت مزيجا مما هو مبشر والمفاجآت التى لا تحدث فى بلدان أخرى. هناك ولمن يسأل فإن الأخبار الاقتصادية المصرية تبدو جيدة لمن هم فى واشنطن، فالخلاصة أن المحروسة عرفت أخيرا الطريق الذى سارت فيه الدول البازغة الأخرى، وما عليها إلا تحمل ما تحملته من آلام العلاج والدواء، وبدا أحيانا أن الحكومة بدأت تفكر كما تفكر حكومات الدول المتقدمة الأخرى أو تلك التى تسير فى طريق التقدم كما فعلت مع الأزمة الدورية لحرق مخلفات الأرز وفى خفض معدلات التلوث فى القاهرة.

أزمة البطاطس لم تكن شهادة جيدة لمصر، سواء فى نشوب الأزمة أو فى استقبالها من قبل المواطنين والأخطر من هؤلاء الذين حاولوا استغلالها على أدوات التواصل الاجتماعى.

كانت علامات النضج مقتصرة، فالصراخ على كل سلعة ترتفع أسعارها يشهد على تكلس الطلب وجمود العرض ومرونة كليهما من أهم أدوات التعامل مع السوق الحرة.

الأكثر خطورة كان حادث الإرهاب فى المنيا الذى حمل لنا ذكرى حدث آخر كان ينبغى ألا ينسى. تراكم الخبرات ضرورى فى التعامل مع الإرهابيين، والحساسية لتواجدهم أو نموهم فى مناطق مختلفة ليست قضية أمنية، وإنما لها علاقة بأدوات الرصد الاقتصادى والاجتماعى التى تراقب وتلاحظ التطرف الذى هو الأب المباشر للإرهاب. المعركة مع الإرهاب تقوم على الصبر، وعلى العلم، وربط الأمن بالسياسة والإعلام والبحث العلمى. تلك هى القضية.

زر الذهاب إلى الأعلى