نشر موقع الشروق مقال للكاتب عبدالله السناوي بعنوان “الدولة ليست اختراعا” جاء على النحو الآتي :-
لكل شىء قواعد وأصول التنكر لها يفضى إلى منزلقات لا يمكن تجنبها.
إدارة الدولة ــ أى دولة ــ مسألة سياسية على درجة عالية من الأهمية والحساسية والخطورة.
نفى السياسة انكشاف كامل يضع الدولة فى دائرة الخطر الداهم.
بالنص الدستورى: رئيس الدولة هو أعلى منصب سياسى، والحكومة شريك فى صنع السياسات العامة ــ لا سكرتارية تنفيذية، وكل ما له صلة بالشأن العام فهو سياسى.
عندما تفرغ الدولة من أى رؤى سياسية فإن الارتباك يضربها، تتفكك صواميلها وتتصارع أجهزتها وتتفشى مراكز قوى فى بنيتها.
تلك أوضاع مقلقة تستدعى مواجهتها بكل وضوح.
لا سبيل إلى أى مواجهة جادة إلا برد اعتبار السياسة.
إدارة المصالح العليا تخضع لاعتبارات الأمن القومى وحساب التحالفات فى الإقليم والعالم ــ هذه مسألة سياسية تحكمها زاوية النظر إلى حجم الأخطار والفرص.
إذا لم يكن هناك نقاش حر ومفتوح تخسر الدولة قدرتها على بناء التوافقات العامة فى ملفات حساسة، أو أى قدرة أخرى على وضع الضوابط المشتركة لما يجوز أو لا يجوز من سياسات وتصرفات وتتحكم الأهواء حيث يجب أن تستبعد.
كما أن إدارة الشأن الداخلى بكل تنوعه السياسى واحتياجاته الملحة فى الصحة والتعليم والخدمات وفرص العمل تحكمها خيارات وتصورات ورؤى ــ هذه مسألة سياسية أخرى تخضع بطبيعة التنوع الفكرى للاتفاق والاختلاف.
إذا ما أفلتت القواعد الدستورية الحديثة فإن العشوائية تضرب صميم أدوار الدولة.
وإذا ما انتهكت الأصول فإن أحدا لا يعرف ما قد يحدث غدا، ولا مدى ضرره الفادح على صورة المستقبل.
تلك كلها بديهيات فى بلد أسس أول دولة فى التاريخ.
وقد استقرت شرعية حكمها على وظائف وأدوار من أهمها تنظيم الرى وصيانة مياه النيل وحفظ الوحدة الوطنية وسلامة الحدود.
نفس الوظائف والأدوار حكمت دولتها الحديثة، التى أسسها «محمد على» قبل مائتى سنة، رغم تناقض العصور والتحديات والحكام.
بقدر خبرة التاريخ، بكل تجاربه وثوراته وحروبه، لا يصح الحديث عن الدولة الحديثة كما لو أنها اختراع مستحدث.
كما لا يصح الاستهانة بما طالبت به ثورتا «يناير» و«يونيو» من التحول إلى دولة مدنية ديمقراطية، دولة مؤسسات وقانون، لا دولة تبطش بمواطنيها وحقوقهم الأساسية ومن بينها التداول السلمى للسلطة.
وفق نص المادة الخامسة من الدستور، القانون الأعلى وأساس الشرعية فى البلد: «يقوم النظام السياسى على أساس التعددية السياسية والحزبية، والتداول السلمى للسلطة، والفصل بين السلطات والتوازن بينها، وتلازم المسئولية مع السلطة واحترام حقوق الإنسان وحرياته».
هذا هو التعريف الدستورى للنظام السياسى.
أى تعريف غيره يناقض الشرعية ويمارس عدوانا عليها.
المعنى ـ أولا ـ أن النظام السياسى أوسع مدى من أن يلخص فى مؤسسة الرئاسة وحدها.
والمعنى ـ ثانيا ـ أن التعددية السياسية والحزبية وتداول السلطة صلب النظام السياسى وليس خروجا عليه، أو تهديدا للدولة.
هكذا فإن الضيق بالتنوع السياسى والحق فى المعارضة يضرب فى جذر الشرعية الدستورية وينال من سلامة الدولة باسم الحفاظ عليها.
هناك فارق جوهرى بين الضيق والتضييق.
الضيق شعور بالأزمة ــ طبيعى ومشروع بقدر ما يبحث فى أسبابها ويعمل على تصحيحها، يراجع التجربة وكيف انكسرت الرهانات الواسعة عليها.
والتضييق يفاقم الأزمة ويحجب أى فرصة لتصويب ما اختل، أو أى تصدعات فى بنية الدولة.
بلغ التضييق مداه فى الانتخابات الرئاسية، فالمرشح المنافس للرئيس الحالى من ضمن مؤيديه قبل أن يكلف بالمهمة حتى لا تكون الانتخابات استفتاء صريحا على رجل واحد.
إذا ما أجريت انتخابات تستحق مثل هذا الوصف دون إبعاد للمنافسين الجديين، أو تزوير فى صناديق الاقتراع، فإنه كان سوف يكسبها.
هناك فارق بين تراجع الشعبية والسلوك الانتخابى.
الأول، ليس فى صالحه شرط توافر منافس مقنع بقدرته على إدارة الدولة.
والثانى، لصالحه تماما حيث تخشى كتل مؤثرة فى الرأى العام من أى تغييرات مفاجئة فى بنية الحكم تسحب من قدر الاستقرار المتوفر.
غياب أى نظرة سياسية أفضى إلى ما يمكن أن نطلق عليه «رهاب الانتخابات»، وهو يكاد يغتال الحق الدستورى فى الاحتكام إلى الرأى العام عبر صناديق الاقتراع بين رجال وبرامج ورؤى.
الانتخابات مسألة تجديد دماء فى شرايين الشرعية.
لا تتأسس شرعية على تفويض.
كان للتفويض الذى منحه المصريون لوزير الدفاع فى (26) يونيو (2013) بتظاهرات مليونية لمحاربة «العنف والإرهاب المحتمل» ظروف خاصة غير قابلة للتكرار.
تلك الظروف اختلفت كليا بقدر حجم الرهانات التى خذلتها السياسات.
هناك دستور يتوجب احترامه والخروج عليه كارثة مكتملة الأركان.
ليس من قواعد إدارة الدول البحث عن شرعية خارج الدستور بـ«تفويض» من نوع أو آخر.
كما ليس من قواعد إدارة الدول دمغ أى اختلاف فى الرأى بمؤامرة تعمل على «إسقاط الدولة إلى الأبد».
بأى قياس سياسى ــ إذا لم تكن السياسة قد دفنت فى مقابر الصدقة ــ فإن اتهام قيادات حزبية معارضة وشخصيات عامة بالتآمر على الدولة لمجرد أنها دعت فى مؤتمر صحفى إلى عدم المشاركة بالانتخابات كارثة منذرة سوف تطال الجميع.
هذا الاتهام لا يقبله أحد فى العالم ويسىء إلى كل معنى حديث ودستورى فى البلد.
إذا أراد أحد أن يشهر بالنظام الحالى وينسف تماما أى فرصة لإصلاح صورته فليس هناك ما هو أسوأ من جر قادة الأحزاب المعارضة إلى المحاكم والتلويح بالاعتقالات الجماعية.
شىء من التفكير السياسى لابد أن يستبعد ذلك السيناريو الخطر، فأثاره وتداعياته مجربة من قبل.
لا دولة بلا غطاء سياسى.. فأى دولة نريد؟
دولة مدنية ديمقراطية حديثة.. أم دولة القبضات الخشنة والملاحقات التى تستهدف الترويع العام لكل رأى أو فكرة خارج الخطاب المعتمد؟
الخيار الأول، يسنده النص الدستورى تكريسا لما دعت إليه تظاهرات الغضب فى «يناير» و«يونيو» طلبا للالتحاق بالعصر ولغته التى لا سبيل لتجاهل مفرداتها كسيادة القانون وحكم المؤسسات والفصل بين السلطات ودور المجتمع المدنى وكفالة الحريات العامة وحقوق الإنسان.
والخيار الثانى، يمضى عكس أى قيمة حديثة ويعود بمصر إلى المربع الذى ثارت عليه مرتين، وهذا وضع خطر لا يحتمله بلد منهك.
فى العصبية الماثلة استعارة لروح ما كان يجرى فى سنوات الحرب الباردة من استقطابات حادة تحت شعار: «من ليس معنا فهو ضدنا».
بشىء من التعديل فهو «ضد الدولة».
الكلام ــ بنصه ــ يسمم البيئة العامة ويغلق أى أمل فى الإصلاح من الداخل وقد تنفجر حمولاته وتهز بنيان الدولة وثقة شعبها فى مستقبله.
مثل هذه الأجواء تزكى كل ما هو عنيف وتفتح أبواب المجهول على مصراعيها.
وهذا ما لا تحتاجه مصر المنهكة، والتى تبحث بالكاد عن أمل.