آراء أخرى

مقال للكاتب “محمد سعد عبدالحفيظ” بعنوان “القومية86 وعزلة كورونا”

نشر موقع الشروق مقال للكاتب “محمد سعد عبدالحفيظ” بعنوان “القومية86 وعزلة كورونا” جاء على النحو الآتي :-
منذ بداية انتشاره فى مصر فرض علينا فيروس كورونا المستجد ما لا نطيق. سيطرة مشاعر الخوف والقلق من الإصابة بالفيروس، وتطبيق إجراءات التباعد والعزل المنزلى، أثَّرا على صحتنا النفسية وعرّضَانا جميعا للاكتئاب.
وفقا لخبراء علم نفس، فإن «الإمعان فى العزل الاجتماعى، والوحدة، والقلق، والتوتر، والإعسار المالى، هى بمثابة عواصف قوية تجتاح الصحة النفسية للناس»، وقد تحتاج المجتمعات إلى وقت طويل للتخلص من الآثار النفسية التى ستتركها تلك المرحلة.
أكثر الناس تأثرا بما فرضه «كوفيد 19» من إجراءات، هم الأطفال وكبار السن وأصحاب الحالات المرضية المزمنة، فضلا عن محبى الحياة الذين اعتادوا الخروج والتواصل مع الأهل والأصدقاء، فالعزلة بالنسبة لتلك الفئة الأخيرة بمثابة سجن فرض عليهم وحرمهم من عادتهم اليومية.
باحثون عبروا عن قلقهم من أن تؤدى «عزلة كورونا» إلى أزمات نفسية للأفراد الذين حرموا من التواصل المباشر ولا يستطيعون التكيف مع الإجراءات الأخيرة، وبحسب الأستاذ المشارك فى قسم علم النفس بالجامعة الأمريكية بالقاهرة هانى هنرى فإن المشكلة بالنسبة للبعض تكمن فى فكرة الحرمان من شىء، مثل عدم القدرة على الذهاب إلى المساجد أو الكنائس، أو عدم القدرة على الخروج أو زيارة الأهل، أو عدم التيقن مما سيحدث غدا.
وفى دراسة نشرت على بوابة «للعلم» بموقع بنك المعرفة المصرى شدد هنرى على ضرورة حماية الإنسان لنفسه ولجهازه العصبى عن طريق تحديد ما يؤثر به وما لا يؤثر به، حتى لا يصل الحال بالشخص إلى التأثر بأى شىء أو كل شىء.
اعتبر بعض الخبراء التواصل «الافتراضى» علاجا مؤقتا يخفف من الاضطرابات الاجتماعية والنفسية الناتجة عن إجراءات العزل الأخيرة، وعلى عكس ما هو سائد نصحوا الأشخاص الأكثر تواصلا ومن اعتادوا رؤية أصدقائهم وأفراد عائلاتهم أن يستبدلوا تلك اللقاءات بتطبيقات التواصل الجديدة.
نيكولاس كريستاكيس، العالِم الاجتماعى والطبيب بجامعة ييل الأمريكية، يقول فى نفس الدراسة المشار إليها: «نحن محظوظون لأننا نعيش فى عصر تساعدنا فيه التكنولوجيا على رؤية أصدقائنا وأفراد عائلتنا والاستماع إليهم، حتى عندما تتباعد المسافات بيننا».
ومع تأكيد هؤلاء الخبراء على أن وسائل الاجتماعى لا تغنى عن التواصل المباشر، «الكثير من المعانى لا تنقل عبر رسائل مواقع التواصل فهناك تفاصيل دقيقة تضيع كلغة الجسد وتعابير الوجه والإيماءات»، إلا أنهم أكدوا أن «نصف العمى ولا العمى كله.. فالتواصل عبر التقنيات الجديدة أفضل كثيرا جدا من عدم التواصل».
فى محاولة للتأقلم مع تلك الحالة، وهربا من حالات الوحدة والعزلة، دشن العديد من رواد مواقع التواصل الاجتماعى «جروبات» أو مساحات للفضفضة، ومع الوقت أصبحت تلك المساحات بمثابة حل مؤقت لأزمة عدم التواصل المباشر، وإلى حد ما ملأت الفراغ الناجم عن الأزمة الأخيرة.
بعد تطبيق إجراءات العزل قبل شهرين تقريبا، جمعتنى المصادفة بمجموعة من أصدقاء الطفولة على أحد جروبات موقع «فيس بوك»، وبعد فترة تم تدشين «جروب» جمع أبناء دفعة مدرستنا «القومية الابتدائية» بمدينة بنى سويف.
كان الجروب فى بداية تدشينه أقرب إلى صندوق ضاع من أصحابه منذ أكثر من 33 عاما، وعثروا عليه دون سابق إنذار، استدعوا فيه ذكريات الماضى البرىء الخالى من أى أعباء، وأعادوا تركيب ما مضى قطعة قطعة حتى اكتمل شكل الفصل وفناء المدرسة وتقسيمة مباريات كرة القدم وترتيبات الإذاعة المدرسية وأسماء المدرسين وغرفة العقاب، لم يزعجهم سوى فقدان بعض الرفاق الذين غيبهم الموت أو ضاعوا فى دروب الحياة.
تبادل أصدقاء الماضى أخبار الحاضر وحكاياته بتفاصيلها، «العمل والزواج والأولاد.. إلخ»، ملأ «جروب القومية 86» ساعات الفراغ الطويلة، وساهم بشكل كبير فى التخفيف من آثار العزلة التى فرضت علينا أخيرا، وكسر إلى حد ما حالة الوحشة، فاستعاد أعضاؤه بعضا من السلام النفسى الضائع.
بعد مرور أكثر من شهرين على تدشين الجروب، صار السؤال اليومى الذى يطرحه أعضاؤه: «هل سنلتقى ونتواصل بشكل مباشر بعد أن تنتهى إجراءات العزل.. أم سيمضى كل منا فى طريقه ويتحول الجروب الذى لا تتوقف إشعاراته على مدى الساعة إلى دفتر مناسبات أو إلى ذكرى لمرحلة كئيبة مرت علينا لن نود استرجاعها؟.. سنرى.

زر الذهاب إلى الأعلى