آراء أخرى

مقال للكاتب “محمد عبد الشفيع عيسى” بعنوان ” الرأسمالية المتوحشة تتجمل..!

نشر موقع الشروق الإخباري مقال أستاذ في معهد التخطيط القومي القاهرة “محمد عبد الشفيع عيسى” بعنوان ” الرأسمالية المتوحشة تتجمل..! سيرة أدبية لصيرورة النظام الاقتصادى العالمى” جاء على النحو الآتي :-

لا يغرنك كل ما تراه على السطح الظاهر للعلاقات الدولية، فليس كل ما يلمع ذهبا. ومن تحت الجلد الظاهر، يبقى العظم والشحم واللحم للنظام العالمى كما هو إلى حد بعيد، رباعية التوسع الرأسمالى: الحرب، والهيمنة (بالاستعمار، ثم من دون «استعمار»)، وتدخل الدولة فى المجال الاجتماعى الداخلى إن لزم، والتقدم التكنولوجى (المادى) المتواصل فى غياب كلى أو شبه كلى للإنسان..!
فلم يزل «الحيوان» و«الطفل» ثاويا تحت رداء الإنسان المعاصر، يوجهه كلاهما بالغريزة والميول غير الرشيدة.. برغم القانون الدولى و«مواثيق الشرف» العابرة للقارات، تحت الأعلام المرفوعة – زورا فى كثير من الأحيان – من أجل نشر الديمقراطية ودعم حقوق الإنسان و«مكافحة الإرهاب»، باستخدام الأسلحة المجربة لأدوات السياسات الخارجية للقوى العظمى خلال القرون الخمسة الأخيرة: الدبلوماسية، الأدوات الاقتصادية (الجزاءات أو العقوبات، والمكافآت والمنح)، التدخل العسكرى ولو باسم «التدخل الإنسانى» العتيد…!
وهل انخدعنا، حتى نخبة النُخَب منا، بالهدوء الذى ران على سطح العلاقات الدولية، فى ظل استتاب واستقرار حكم الرأسمالية المتفردة أو «القوة العظمى الوحيدة»، بعد سقوط الاتحاد السوفيتى عام 1990 حتى الآن..؟
وهل خُدِعنا بالخَدَر (اللذيذ) للركود الذى صنعته أو اصطنعته الرأسمالية فى عقر دارها بعد اختفاء وهج «تدخل الدولة»، لمعالجة الأزمات الاقتصادية خلال العقود الزمنية الأربعة منذ أزمة «الكساد العظيم» 1929 ــ 33 حتى أزمة النفط 1973..؟
***
طوال أربعين عاما كانت الرأسمالية (طيبة) فى عُقر دارها الأوروبى ــ الأمريكى، تخفى أنيابها بملمس ناعم رشيق: ما يسمى «دولة الرفاهية»، وخاصة عن طريق سياسات الإنفاق الاجتماعى الموسع ولو بعجز الموازنات الحكومية. ولكن كما قال الشاعر:
إذا رأيت نيوب الليْث بارزة.. فلا تظنن أن الليث يبتسمُ..!
ومنذ منتصف السبعينيات ( بُعَيْد 1973) خلقت لنا «الليبرالية الـطيبة» رأسمالية أخرى متوحشة تمارس بقوة الهيمنة «الرباعية» سطوتها، متذرعة بقوة المنظمات النقدية والمالية التابعة لها (خاصة صندوق النقد الدولى، والبنك الدولى) وبالسيطرة الأمريكية بالذات، والأوروبية من بعدها، على أدوات التداول النقدى، منها ما يسمى بالإمبريالية النقدية للدولار، والتحكم فى أسواق المال والسندات والديون، واحتكار قمم التكنولوجيا العليا، المادية، المتواصلة، من منابعها على أيدى الشركات العملاقة عابرة الجنسيات، وخاصة الشركات المائة الكبرى فى مختلف القطاعات التكنولوجية المتقدمة.
لم يعد مسموحا فى ظل ذلك، بإقامة نظام اقتصادى واجتماعى فى بلد أو منطقة ما، بغير اتباع وصايا الرأسمالية العالمية، ولا هو بمسموح لأحد بالخروج من «قفص الطاعة» الذهبى الخشن، برغم بروز قوة أقطاب دولية، فعلية أو محتملة، على رأسها الصين.
وإن «الليبرالية الجديدة»، المتوحشة تلك، تنتشر وتتوسع باستخدام مغريات المعونة، ومهددات العقوبات الاقتصادية الانفرادية، وبالتدخل العسكرى إن دعت الحاجة، وبالتفوق التكنولوجى الغربى ــ الأمريكى فى جميع الأحيان. وهى (العصا لمن عصِى)؛ فمن يحاول (الخروج عن الخط المرسوم) مصيره محتوم: المواجهة بحروب الحصار و«الخنق الاقتصادى»، وبالحسم العسكرى فى نهاية الأمر وفى حال الضرورة أو لعله بغير ضرورة عندهم. وأما إن أطاع من هو معنىٌ بالطاعة فله أن ينتقل من (طابور العقوبة) ولو كان باسم (قائمة الدول الداعية للإرهاب) إلى نعيم الرضا المحسوب والمشروط. نعيم محدود بالطبع، لا يشبهه سوى ذلك النعيم الذى وُعِد به السادات بعد حرب أكتوبر 1973، فلم ينل منه غير (الانفتاح الاقتصادى)، ثم الأزمة الاقتصادية المزمنة المتواصلة حتى اندلعت ثورة كاملة، ثورة 25 يناير 2011.
نعيم محدود، برضا محسوب، ومشروط إذن. هذه مشروطية النعيم المحدود المحسوب، الذى لا يزيد، نكرر القول، للأسف، عن النعيم الذى وُعِد به السادات من الغرب والولايات المتحدة لا سيما بعد حرب أكتوبر، وفى منتصف السبعينات من القرن المنصرم. وهى ليست مشروطية مقترنة باتباع برنامج اقتصادى معين فقط، مثل تلك البرامج الموصى بها من صندوق النقد الدولى، ولكنها تصل إلى ما لم يصل إليه خيال أكثر المتشائمين تشاؤما على امتداد الوطن العربى الكبير.. أنْ يتم ربط المال المحدود، المشروط، بتطبيع العلاقات مع (إسرائيل) وممن؟ ممن لم تكن له علاقة مباشرة من أى نوع بالصراع الذى خلقته عدوانات إسرائيل العسكرية على العرب عموما منذ نشأتها عام 1948. ولا نتحدث هنا عن العدوان الصهيونى المتواصل على الشعب الفلسطينى وأرضه وجواره اللصيق منذ تسارعت حركة الاستيطان الصهيونى فى مطلع القرن العشرين، وخاصة بعد صدور «وعد بلفور» المقدم من بريطانيا ممثلة فى وزير خارجيتها بلفور إلى «الاتحاد الصهيونى» ممثلا فى اللورد (اليهودى) روتشيلد، بتاريخ الثانى من نوفمبر عام 1917، ونص على (النظر من طرف «حكومة جلالة الملكة» «بعين العطف» لإقامة «ملاذ يهودى للتوطن» فى فلسطين National Homeland). وتحققت غاية الوعد اعتمادا، فى الأصل، على السيطرة البريطانية الفعلية على فلسطين إثْر فصلها عن الدولة العثمانية، وذلك فى الفترة التالية لنشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914 بعد اصطفاف تركيا إلى جانب ألمانيا فى مواجهة بريطانيا (وفرنسا). وقد تم تقنين هذه السيطرة البريطانية من خلال فرض حكم الانتداب الاستعمارى البريطانى على هذا البلد العربى عام 2020، من خلال قرارات «عصبة الأمم» التى تم الاتفاق بين الحلفاء المنتصرين فى الحرب العالمية الأولى على تأسيسها عام 1919 على إثر انتهاء الحرب العالمية الأولى. وتم تضمين «الوعد» فى «صك الانتداب»، ثم صدقت «العصبة» على هذه الوثيقة الاستعمارية الصريحة بصورة رسمية عام 1922..!
فهل رأيتم إلى أى حد وصلنا إليه فى هذه الفترة من فترات تطور العلاقات الدولية المعاصرة. وهل رأيتم كيف انحدرنا إلى هذا الدرك الأسفل من النار، كما قلنا من قبل..؟
***
ولكن هل تغير شىء جذرى حقا؟ أم أن الرأسمالية المعاصرة هى هى: توسع لا متناهٍ باستخدام القوة، يزيد عليه فى منطقتنا العربية ارتباط عضوى للرأسمالية المعاصرة، فى فترة «الليبرالية الجديدة» والمتوحشة، بالصهيونية فى أدنى مراحل تغيرها وانحدارها إلى الترويج لاعتبار (إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودى..!) وذلك بدعم أمريكى غير محدود، كما هو معروف.
وكما ابتدأت سياسات التوحش الرأسمالى بالقوة، فإنها إذْ تمتزج بالتوحش الصهيونى هذه الأيام، تنتهى بالقوة أيضا، حتى لتفرض ربط المعونة بالتطبيع القسْرى مع الكيان..؟
فهل رأيتم ما فعلت بنا عنصرية الرأسمالية المتوحشة، والصهيونية، وإلى أى دَرك انحدر هذا العالم الآن..؟ ولكن لا جديد، ولم نفاجأ تاريخيا. وإنما انخدعنا بالهدوء المؤقت الذى فرضته سياسة الإخضاع، لعشرات قليلة من السنين خلت، فى نوع من التجميل المصنوع للوجه القبيح.
العودة إلى ديار الحبيب
لكأننا بعد ما سبق، وأنه لا جديد فى سيرة الرأسمالية الحديثة والمعاصرة، يمكن أن نستعيد بيت الشعر الذى قاله «عنترة العبسى» فى مطلع قصيدة عصماء، يتحدث عن أنه لا جديد لديه يقوله، أكثر من الشعراء الذين سبقوه (حيث كان ابتداء قصائدهم دائما بالبكاء على أطلال البيوت المغادرة، ومن مفارقة ديار الحبيب). وهكذا قال عنترة:
هل غادر الشعراء من مُتَرَدَمِ.. أمْ هلْ عرفت الدار بعد توَهُمِ..؟
هذا، ولكن التاريخ لا يعيد نفسه دائما؛ فلنتهيأ إذن لما هو قادم من الأيام..!

زر الذهاب إلى الأعلى