آراء أخرىعاجل

مقال للكاتبة أمينة خيري تحت عنوان : محطة «داعش» المقبلة

أعضاء تنظيم الدولة الإسلامية مصنوعون من مواد غير قابلة للذوبان أو التبخر. والضغط عليهم فى سوريا لا يعنى بالضرورة أنهم سيتبددون فى هواء الكوكب. وإجبارهم على النزوح من العراق لا يؤدى حتماً إلى ذوبانهم فى نهر دجلة. وكذلك الحال فى بقية أراضى «الوطن العربى».

«الوطن العربى» واقع حتى شوشته فى غياهب بسط هيمنة دولة الخلافة الإسلامية بأشكالها المختلفة، بدءاً بمحتواها الخام مروراً بأشكالها المتنوعة من «أنصار الشريعة» و«جيش الإسلام» و«قوات الصناديد»، وانتهاء بموديلاتها المموَّهة من إخوان وأصوليين وسلفيين يروجون لأنفسهم باعتبارهم الشكل الـ À la mode من الخلافة الإسلامية المتطورة المواكبة لروح العصر ومتطلباته. وإنكار أو تحوير أو التقليل من حجم الكارثة الفكرية والثقافية (وبالطبع الأمنية والسياسية والاقتصادية) المحدقة بهذا الجزء من العالم ليس إلا دفناً للرؤوس فى الرمال، وهو ما اتضح أن النعام نفسه لا يقوم به. صحيح أنه يطل برأسه بين الحين والآخر فى حفرة فى الأرض، لكنها تكون حفرة قام بحفرها وباضت فيها الإناث، فيأتى بين الحين والآخر للاطمئنان عليها.

وكى نطمئن نحن إلى حد ما على مستقبلنا القريب فحرىٌّ بنا أن نفكر فى مصير أعضاء تنظيم الدولة الإسلامية وأبناء وبنات عمومه من الجماعات المتصارعة تصارعاً دموياً هنا وهناك. يفترض أن يشعر كل شخص عاقل بالغ مازال ممسكاً بقدر من قواه العقلية والنفسية بفرحة عارمة كلما تم الإعلان عن تحرير مدينة هنا من قبضة الدواعش أو تطهير قرية هناك من سيطرة جماعة دموية ترفع راية الدين. لكن الحقيقة أن على كل عاقل بالغ أيضاً أن يفكر فى مصير أولئك الذين تم إخراجهم من المدينة المحررة أو القرية المطهرة. الاعتقاد السائد والمرتكز على نظرية علمية هى أن الضغط على بالون الدواعش يؤدى إلى توزيعهم فى منطقة أخرى داخل البالون نفسه. وطالما البالون لم ينفجر، يظل الدواعش وأبناء عمومهم فى الداخل ينتقلون من هذه المنطقة المضغوط عليهم فيها إلى تلك وهكذا. يخرجون من «الحويجة» فى العراق فيعاودون الظهور فى «البوكمال» فى سوريا، أو ينتقلون إلى ليبيا أو يقدمون المدد لإخوانهم فى شمال سيناء، وهلم جرا.

وعلى غير ما جرت العادة من اقتصار التعامل مع الجماعات التفكيرية والجهادية وغيرها من مصاصى الدماء الآدمية على التعامل الأمنى، حيث إلقاء القبض وإيداع السجون، فإن تياراً بازغاً يفرض نفسه على دول عدة فى العالم يبحث فى كيفية التعامل مع «العائدين من سوريا والعراق» أو خريجى كليات الفكر الداعشى.

وضمن فعاليات «مؤتمر الحمامات» (منصة دولية تعنى بالحوار وتعزيز العلاقات بين بريطانيا وشمال أفريقيا ينظمها المجلس الثقافى البريطانى)، الذى انعقد فى تونس قبل ثلاثة أيام، تباحث المشاركون فيما يمكن أن يفعله العالم بالعائدين من داعش. وبين عرض وجدته عجيباً غريباً لتجربة فى سوريا وآخر واقع بين شقى رحا قلة حيلة الدولة ورغبتها فى درء خطر العائدين عبر طرق مبتكرة تتعدى التعامل الأمنى فى تونس، شعر الجميع بوطأة الكارثة.

فالعائدون قد يكونون قنابل موقوتة تمشى على الأرض. لكنهم فى الوقت نفسه ربما لديهم بقايا من رجاحة عقل قد تعيدهم إلى صوابهم. وربما أيضاً يعودون لبلدانهم مضطرين استعداداً لأول فرصة لمعاودة الدعشنة. هذه المجموعات العائدة ليست متناغمة فى تكوينها أو متوحدة فى أهدافها. فهناك من خضع لعمليات غسل أدمغة أوقعته فى براثن هذا الفكر المريض. وهناك من يعتبر دعشنته وسيلة لكسب الرزق أو طريقة لممارسة ميوله الإجرامية ولكن مغلفة بشعارات دينية. وهناك أيضاً من كان يعيش فى خواء فكرى أو فراغ حياتى فبادر بالبحث عن جديد درءاً للملل وأملاً فى الإثارة والمغامرة. ولكل من هذه النماذج الداعشية وغيرها طريقة للتعامل.

تعامل الدول الغربية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا والنمسا مع دواعشها العائدين يختلف حتماً مع تعامل «العالم العربى» مع دواعشه. ففى مارس الماضى مثلاً، عاد نحو 400 داعشى إلى بريطانيا. وكان السجال الكبير هو كيفية التعامل معهم. فبين ميل شعبى لدرء خطرهم سواء بالإبعاد أو الاعتقال، والتزام رسمى بالقانون حيث لا مجال لإبعاد مواطن بريطانى ولا افتراض لاعتقال إلا بإجراءات قانونية، بل إن هناك حديثاً دائراً الآن حول إمكانية توفير بيوت تابعة تمتلكها وتنفق عليها الحكومة البريطانية للعائدين، بالإضافة إلى توفير التأهيل النفسى والعقلى لهم، وذلك ضمن عملية تعرف بـ«عملية تقييد الحركة»، أو Operation Constrain، وهو ما يعترض عليه الكثيرون من دافعى الضرائب فى بريطانيا.

ورغم عدم وجود وصفة مؤكدة أو روشتة مفصلة عن كيفية التعامل الأمثل مع الدواعش العائدين إلى بلدانهم وكذلك أولئك النازحون من هنا إلى هناك أو من هناك إلى هنا، يظل مصيرهم ومن ثم مصيرنا عالقاً فى الهواء أو مدفوناً فى الرمال جنباً إلى جنب مع بيض النعام انتظاراً لمحطة داعش المقبلة.

زر الذهاب إلى الأعلى