هل صحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن الادخار و أمر بإنفاق كل ما يملكه المسلم قبل وفاته ، وما رأي الدين فيما يردده بعض الناس : اصرف ما فى الجيب يأتيك ما فى الغيب ؟
الجواب : هناك بعض صور حدثت فى أيام النبى صلى الله عليه وسلم جعلت بعض الناس يقعون فى حكم عام ، دون دراسة للصور الأخرى ، وللظروف التى حدثت فيها ، وذلك مثل ما رواه الطبرانى بإسناد حسن أن النبى صلى الله عليه وسلم دخل على بلال فأخرج له صُبَرًا من تمر، فقال : ” ما هذا”؟ قال :
ادخرته لك يا رسول الله ، وفى رواية : أعدُّ ذلك لأضيافك ، فقال له “أما تخشى أن يجعل لك بخار فى نار جهنم ؟ أنفق يا بلال ولا تخش من ذى العرش إقلالا” ومثل نهيه عن ادِّخار لحوم الأضاحى فوق ثلاثة أيام ، ومثل إنفاق أبى بكر الصديق رضى الله عنه فى غزوة تبوك كل ما عنده ولم يبق لعياله إلا الله ورسوله .
لكن أجيب عن حديث بلال بأن النهى عن إمساك المال هو نهى عن البخل والشح به ، لا عن ادخاره لمفاجآت المستقبل ، أو النهى عن إمساكه هو لمن يعتمد عليه كل الاعتماد ويوشك أن يضف ذلك ثقته بالله . وبأن النهى عن ادخار لحم الأضاحى هو من أجل إطعام المحتاجين الذين يفدون على المدينة من أجل ذلك ، ثم أجاز لهم أن يأكلوا ويدخروا لأولادهم منها ، وجاءت فى ذلك عدة أحاديث متفق على صحتها” .
وأبو بكر الصديق ، أنفق كل نقوده ، ولكن بقيت له أملاك أخرى كالنخل الذى تركه بعد وفاته وأوصى عائشة أن تجذه ، على أن أبا بكر لا يدانيه أحد بعد الرسول فى قوة إيمانه وثقته بالله ، لا يفتن أبدا ، ولا يندم على خير فعله .
وفى غير هذه الظروف أباح الإسلام الادخار، بل دعا إليه لمواجهة ظروف المستقبل ، ولذلك عدة أدلة :
1- نهى الإسلام عن الإسراف الإنفاق حتى لو كان فى الخير، قال تعالى فى زكاة الزروع والثمار{ وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } وعندما قال سعد بن أبى وقاص – وكان مريضا – أنا يا رسول الله ذو مال ولا يرثنى إلا ابنة لى، أفأتصدق بثلثى مالى ؟ قال له الرسول “لا” قال : فالشطر يا رسول الله ، قال ” لا” قال : فالثلث يا رسول الله ، قال ” الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ” رواه البخارى ومسلم .
ولما تاب الله على كعب بن مالك حين تخلف عن غزوة تبوك بدون عذر قال للنبى صلى الله عليه وسلم: إن من توبتى أن أنخلع من مالى صدقة إلى الله وإلى رسوله ، فقال له ” أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك ” رواه البخارى ومسلم . وفى الحديث الذى رواه البخارى ” خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى” أى ما تركت صاحبها بعد التصدق غنيا غير محتاج ، على ما جاء فى بعض الشروح فلا خير فى السرف حتى لو كان فى الخير، والنصوص فى النهى عنه فى العبادة كثيرة . وأما من قال : لا سرف فى الخير فهو الحسن بن سهل عندما أنفق أموالا كثيرة فى زفاف بنته ” بوران ” على المأمون عندما قال له : لا خير فى السرف ، وكلام الحسن ليس حجة ، فهو تبرير لخطأ وقع فيه كما ذكر فى هذه النصوص .
2- الادخار تواجه به الاحتمالات غير المتوقعة ، والتى توقع الإنسان فى حيرة إن لم يجد ما يواجهها ، فهو إما أن يستسلم فيكون الضرر البالغ ، وإما أن يسأل ويستجدى وذلك حرام ، وإما أن يسلك طرقا غير مشروعة كالسرقة والربا ، وإما أن يستدين و الدين همٌّ بالليل وذل بالنهار .
والادخار يعطى الإنسان راحة نفسية ويساعد على عمل الخير، وتنمية ثروته ، ومن هنا كانت خطة يوسف عليه السلام فى مواجهة المجاعة التى فسر بها روية عزيز مصر، حيث أمر بالادخار وقت الرخاء سبع سنوات على ما هو مذكور فى القران الكريم وقد أشاد القرآن بالأب الصالح الذى ترك كنـزا لليتيمين ، فى قصة الخضر عليه السلام ” الكهف ” .
3- ادخر النبى صلى الله عليه وسلم لأهله قوت سنة من مال خيبر، كما حدَّث بذلك عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، ورواه البخارى، ويعلق عليه الشرقاوى بقوله : ولا يعارضه حديث أنه كان لا يدخر شيئا لغد، لأنه كان قبل السعة ، وفيه جواز ادخار القوت للأهل والعيال ، وأنه ليس بمكروه ولا ينافى التوكل ، وكيف ومصدره عن سيد المتوكلين ؟ 4- وردت آثار طيبة عن المتقدمين تدعو إلى الادخار، منها قول الإمام على رضى الله عنه فى كتابه إلى عامله على البصرة : دع الإسراف مقتصدا ، واذكر فى اليوم غدا ، وأمسك من المال بقدر ضرورتك ، وقدم الفضل ليوم حاجتك ” نهج البلاغة : ج 2 ص 19 ” وقال عبد الله ابن عمرو: احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واحرث لآخرتك كأنك تموت غدا ” عيون الأخبار ج 1 ص 244 ” .
فالادخار مشروع لأن الإسلام يأمرنا بالحذر والحيطة ، ويكره العجز والتواكل ، ولا يكره الغنى بل يمدحه ويدعو إليه إذا كان للخير، كما يحب تنمية الثروة بالطرق المشروعة ، ويأمر بالحرص على كل ما ينفع ، فالمؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف كما صح فى الحديث راجع كتابنا ” توجيهات دينية واجتماعية” .