رجح وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر أن يؤدى وباء كورونا إلى تغيير النظام العالمي للأبد، مشيرا إلي أن الاضطرابات السياسية والاقتصادية الناجمة عن الوباء ستستمر لأجيال، داعيا الادارة الأمريكية للاستعداد إلي نظام ما بعد كورونا، واستخلاص الدروس من تطوير خطة مارشال ومشروع مانهاتن.
وأوضح كيسنجر في مقال نشره بصحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، أمس الجمعة، أن الأجواء العبثية التي يشهدها العالم الآن بسبب الوباء، أعادت إلى ذهنه المشاعر التي انتابته عندما كان جنديا في فرقة المشاة خلال معركة الثغرة أثناء الحرب العالمية الثانية أواخر عام 1944، حيث يسود الآن الشعور نفسه بالخطر المحدق الذي لا يستهدف أي شخص بعينه، وإنما يستهدف الكل بشكل عشوائي ومدمر.
وأشار كيسنجر إلي أن هناك فرقا مهما بين تلك الفترة و الوضع الراهن، يتمثل في أن قدرة الأمريكيين كانت في سبيل لتحقيق هدف وطني، لكن الأن تعانى الولايات المتحدة من الانقسام فهناك حاجة إلى حكومة تتحلى بالكفاءة وبعد النظر للتغلب على العقبات غير المسبوقة من حيث الحجم والنطاق العالمي.
كما لفت وزير الخارجية الأمريكي الأسبق إلي أن الحفاظ على ثقة الجماهير أمر حاسم للتضامن الاجتماعي، وعلاقة المجتمعات ببعضها البعض، وللسلام والاستقرار الدوليين.
وأشار إلى أن قادة العالم يتعاطون مع الأزمة الناجمة عن الوباء على أساس وطني بحت، إلا أن تداعيات التفكك الاجتماعي المترتب على تفشي الفيروس لا تعترف بالحدود.
وأوضح كيسنجر أن الأمم وتزدهر وتتماسك باعتقادها أن مؤسساتها يمكن أن تتوقع الكارثة، وتوقف تأثيرها وتستعيد الاستقرار، لافتا إلي أنه عندما ينتهي الوباء سيتم النظر إلى مؤسسات العديد من البلدان على أنها فشلت، ولا يهم ما إذا كان هذا الحكم عادلاً وبشكل موضوعي، لكن الحقيقة هي أن العالم بعد كورونا لن يعود كما كان.
ورأي وزير الخارجية الأمريكي الأسبق أن الإدارة الأمريكية قامت بعمل قوي في تجنب الكارثة الفورية، لكن الاختبار النهائي هو ما إذا كان من الممكن إيقاف انتشار الفيروس وعكس مساره والحفاظ على ثقة الجمهور في قدرة الأمريكيين على حكم أنفسهم، مشددا على وجوب ألا تعطل جهود احتواء الأزمة، مهما كانت ضخمة وضرورية، المهمة العاجلة المتمثلة في إطلاق مشروع موازى للانتقال إلى نظام ما بعد كورونا.
وأشار كيسنجر إلي أن القادة يتعاملون مع الأزمة على أساس وطني إلى حد كبير، لكن تأثيرات الفيروس على تفكك المجتمع لا تعترف بالحدود، مرجحا أن تستمر الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي سببها كورونا لأجيال، مشددا على أنه لا يمكن لأي دولة، ولا حتى الولايات المتحدة، أن تتغلب على الفيروس عبر جهد وطني فقط، بل يجب أن تقترن تلك الجهود بتعاون عالمي.
ورأى وزير الخارجية الأمريكي أنه من خلال استخلاص الدروس من تطوير خطة مارشال (المشروع الاقتصادي لإعادة تعمير أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية) ومشروع مانهاتن (مشروعا للبحث والتطوير الذي أنتج أول قنبلة ذرية خلال الحرب العالمية الثانية)، فإنه يجب على الولايات المتحدة الإلتزام ببذل جهد كبير في ثلاثة مجالات، أولها دعم المرونة العالمية حيال الأمراض المعدية، موضحا أن انتصارات العلوم الطبية مثل لقاح شلل الأطفال والقضاء على الجدري والتشخيص الطبي من خلال الذكاء الاصطناعي، أوقعتنا في حالة من الرضا عن النفس.
وأكد كيسنجر الحاجة إلى تطوير تكنولوجيات وتقنيات جديدة لمكافحة العدوى ولقاحات مناسبة لمجموعات كبيرة من السكان، وأن تكون المدن والولايات والمناطق مستعدة باستمرار لحماية سكانها من الأوبئة.
أما النقطة الثانية، فتتمثل في السعي إلى تضميد جراح الاقتصاد العالمي، حيث أوضح أن زعماء العالم تعلموا دروساً مهمة من الأزمة المالية العالمية عام 2008. ولكن الأزمة الاقتصادية الراهنة أكثر تعقيداً، فالانكماش الذي أحدثه كورونا غير مسبوق في التاريخ من حيث سرعته ونطاقه العالمي، لذلك يجب وضع برامج لتخفيف آثار تلك الفوضى الوشيكة على أضعف السكان في العالم.
وفيما يخص النقطة الثالثة فهي تتعلق بحماية مبادئ النظام العالمي الليبرالي، مشيرا إلي أن الأسطورة التأسيسية للحكومة الحديثة تستند إلى مدينة مسوّرة يحميها حكام أقوياء، أحياناً مستبدون وأحياناً صالحون، لكنها دائماً قوية بما يكفي لحماية الناس من عدو خارجي.
واشار كيسنجر إلي أن مفكرو عصر التنوير أعادوا صياغة هذا المفهوم مجادلين بأن الغرض من الدولة الشرعية هو توفير الحاجات الأساسية للأفراد، وهي الأمن والنظام والرفاهية الاقتصادية والعدالة، إذ لا يمكن للأفراد تأمينها بأنفسهم.
ومضى قائلا : “لكن هذا الوباء أثار مفارقة تاريخية تكمن في إحياء المدينة المسورة في عصر يعتمد فيه الازدهار على التجارة العالمية وحركة الناس”.
وشدد كيسنجر على أن ديمقراطيات العالم تحتاج إلى الدفاع عن قيم التنوير والحفاظ عليها، محذراً من أن التراجع العالمي عن موازنة السلطة مع الشرعية سيؤدي إلى تفكك العقد الاجتماعي محلياً ودولياً. كما أكد على أن التحدي التاريخي الذى يواجهه الزعماء هو إدارة الأزمة وبناء المستقبل، محذرا من أن الفشل يمكن أن يحرق العالم.