نشر موقع الشروق الإخباري مقال لـ “زياد بهاء الدين ” محام وخبير قانوني، وسابقاً نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير التعاون الدولي، ورئيس هيئتي الاستثمار والرقابة المالية وعضو مجلس إدارة البنك المركزي المصري بعنوان “تعليق عاجل على قانون الجمعيات الجديد” جاء على النحو الآتي :
أكتب هذا المقال بعد ساعات قليلة من إقرار البرلمان لقانون الجمعيات الأهلية الجديد واستنادا لقراءة سريعة للمشروع المقدم من الحكومة والذى لم يتعدل كثيرا فى المناقشة البرلمانية حسبما فهمت، ولذلك فإن كان فى تعليقى سهو أو خطأ فمعذرة لضيق الوقت.
حكمى الخاص على القانون الجديد أنه بلا شك يمثل تقدما كبيرا عن القانون السابق الكارثى الذى أقره البرلمان (ذات البرلمان بالمناسبة وبذات الاقتناع والحماس) منذ عامين فى غفلة من العقل والمنطق بل ودون استشارة وزارة التضامن الاجتماعى صاحبة الولاية على الموضوع. ولهذا فإن الاحتفاء بالقانون الجديد واجب، وكذلك تقدير الجهود التى بذلت ليس فقط فى اعداده والدفع به للأمام، ولكن أيضا فى كشف مساوئ القانون السابق وفى توضيح مضاره للمسئولين وفى التوعية بما جلبه من خراب على النشاط الأهلى فى مصر وعلى ملايين المستفيدين منه.
القانون الجديد يحقق عددا من المكاسب المهمة التى طالب بها المجتمع المدنى، على رأسها العودة لنظام تأسيس المنظمات الأهلية بالإخطار ودون احالة المستندات الواجب تقديمها لقرارات ادارية لاحقة، وتسهيل بعض الجوانب الإدارية فى تأسيس وادارة الجمعيات، وتطبيق رقابة متوازنة على التمويل الأجنبى بحيث يعتبر طلب التمويل مقبولا لو لم ترفضه جهة الإدارة خلال فترة زمنية معينة، والأهم من كل ذلك إلغاء عقوبة الحبس من القانون والاكتفاء بالغرامات المالية. كذلك فقد استحدث القانون فكرة الكيان المؤقت، كالمبادرات الأهلية والحملات، الذى لا يلزم أن يكتسب الشخصية الاعتبارية، وجاء بتنظيم شامل ومطلوب للمنظمات الأهلية الأجنبية، وأعطى اعتبارا لفكرة العمل التطوعى.
ولكن هل حقق القانون الجديد كل ما كان المجتمع الأهلى يطمح إليه؟ بالتأكيد لا. شخصيا كنت أتطلع لتخفيف المزيد من الأعباء الإدارية وبالذات ما يتعلق بانتخاب مجالس الإدارة ومواصفات المقار وإجراءات فتح الحسابات وتنظيم جمع التبرعات. كذلك تزعجنى المواد التى تلزم المنظمات الأهلية بالحصول على تراخيص إضافية عند مزاولة نشاطها، والمواد التى تتيح لجهة الإدارة وقف نشاطها وقفا مؤقتا حتى مع مخالفات غير جسيمة. ولا أرى ضرورة لإنشاء وحدة خاصة للرقابة على المنظمات الأهلية داخل الوزارة وأخشى أن تصبح كيانا رقابيا موازيا. وأخيرا فإن الغرامات المالية وإن كانت أفضل بالتأكيد من عقوبة الحبس ألا أن حدها الأدنى مرتفع بالنسبة لبعض المخالفات البسيطة.
ولكن على الرغم مما لدى من تحفظات على القانون الجديد فإننى أرى فيه تقدما يستحق التقدير ليس فقط لأنه بالفعل أفضل بكثير مما سبقه، ولكن أيضا لأنه يعبر عن إمكانية التفاوض والتفاهم والبحث عن مساحات مشتركة على نحو نفتقده فى كل مناقشة أو خلاف حول أى قضية أو سياسة عامة. وأذكر العاملين فى المجال الأهلى ممن كانوا يطمحون لأكثر من ذلك بأن وزارة التضامن الاجتماعى كانت فى هذا الموضوع فى موقف لا تحسد عليه، بين ضغوط محلية ودولية لإصدار قانون يحرر المنظمات الأهلية من الرقابة الثقيلة الواقعة عليها، وبين ضغوط لا تقل وطأة من داخل الدولة لا تزال تنظر للنشاط الأهلى بتوجس وتعتبره ثغرة أمنية يلزم التضييق عليها ,فأن تكون المحصلة النهائية قانونا لا يحقق أحلام ومطالب أى من الطرفين بالكامل هو انتصار لمفهوم التفاوض والتنازل والبحث عن مسار مشترك، وهو ما أرى وجوب الاحتفاء به حتى نتعلم منه ونتشجع ونستمر فى البحث عن هذه المساحات المشتركة التى يحتاجها الوطن وبشدة فى كل الملفات السياسية والاقتصادية.
لذلك فأحب أن أتوجه بالتحية والتقدير لكل من دافعوا عن حرية المجتمع المدنى، وكل من دفعوا ثمن موقفهم، وكل من شاركوا فى إعداد القانون الجديد وأخذوا دعوة وزارة التضامن الاجتماعى للحوار المجتمعى مأخذ الجد ولم يعتبروها مجرد مناورة لكسب الوقت أو لارضاء العالم الخارجى، وأتوجه بالتحية أيضا لعدد محدود من نواب ونائبات البرلمان ممن كان لهم موقف حقيقى فى هذا الموضوع وأخص منهم النائبتين نادية هنرى وهبة هجرس. وأخيرا وبالتأكيد ليس آخرا الوزيرة غادة والى على صبرها ومثابرتها فى البحث عن مخرج لهذه الأزمة التى عصفت بالنشاط الأهلى والإصرار على ايجاد مسار توافقى لرؤى وضغوط شديدة التباين والتناقض.
واسمحوا لى بأن أقول لمن لا يرون فيما تحقق سوى رضوخ لضغوط أجنبية: لا تبخسونا حقنا إلى هذا الحد، وتذكروا أن هذا القانون بالذات كان وراءه عشرات الجمعيات التى شاركت فى الحوار المجتمعى،، وأن لدينا مجتمعا مدنيا حقيقيا ناضل لعقود طويلة من أجل حريته، وأن تتوافق مطالبه مع ما تطالب به بعض الدول الأجنبية عن سوء أو فساد نية لا ينتقص من جهدنا الداخلى ولا من قيمة التضحيات التى بُذلت.
وفى النهاية اتمني غلق هذا الملف الشائك، وفتح صفحة جديدة مع المجتمع المدنى فى مصر، يمنحه الأمان، ويطلق طاقاته من جديد لخدمة الوطن والمواطنين.