نحتاج كثيرًا الحديث مع العالم الخارجى المضطرب، بحكاياته الخاصة حول أزمة الاحتباس الحرارى والحرب الباردة التجارية والخروج البريطانى من الاتحاد الأوروبى والتنافس الأمريكى الروسى وسباق التسلح النووى، والمضطرب أكثر مما يخصنا فى القصة العالمية؛ لأن قصتنا تأتى من الشرق الأوسط، حيث أزمات «الربيع العربى» ودمائه النازفة فى الحروب الأهلية، وفى العموم حالته القلقة والمرهقة عما إذا كانت هناك فى الجعبة ثورات أو حروب جديدة. وسط ذلك كله أن تجد مكانا للقصة المصرية ليس سهلا، من ناحية لأن هناك قصصا كثيرة أخرى تقدمها دول حجزت مكانها بين الدول الكبرى أو المتقدمة أو ذات التأثير؛ ومن ناحية أخرى لأن من سبقنا إلى بقية الدنيا بقصة خرجت من صميم المواجهة فى ثورة ٣٠ يونيو المصرية. القصة فيها «المظلومية» التى تخص جماعة الإخوان؛ والثورة المغدورة فيما يخص جماعات أخرى، وطوال السنوات الماضية جرى نسج هذه القصص فى أسطورة واحدة سلبية لا تعرف بناء ولا معمارًا ولا إنقاذًا من مخالب الفاشية ولا تغييرا فى الخريطة المصرية وإضافة للتاريخ المصرى. ما أضاف إلى تلك القصة السلبية اضطرابا جاء من تطورات إعلامية تمت خلال الأسبوع الماضى، وخلقت توقعات بأن العرض الذى جرى فى يناير ٢٠١١ يمكنه أن يتكرر مرة أخرى بحذافيره، وينتهى إلى ما انتهى إليه، إذا ما استمرت عمليات تحريض عاتية تعمل آناء الليل وأطراف النهار تبث سموما وتخلق توقعات.
.. وسط ذلك كله توجد الحاجة إلى خطاب جديد ومركز وهادف إلى طرح القصة المصرية الحقيقية الواقعة على أرض مصر بلا زيادة ولا نقصان، والغائبة تماما عن القصص الغربى عن مصر.وكان ذلك هو ما فعله المركز المصرى للدراسات الاستراتيجية فى مدينة «نيويورك» إبان انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة بالتعاون مع «معهد الشرق الأوسط» العريق فى موقعه بالعاصمة الأمريكية واشنطن. قدم الجمع من الباحثين والخبراء رسالة مصرية أولها هو كيف ترى مصر الشرق الأوسط والتهديدات الموجهة له خلال المرحلة الراهنة من تاريخه، وآخرها ماذا حققت مصر خلال السنوات الخمس الماضية وإلى أين يقودها ما حققته حتى الآن. وجرى تقديم ذلك من جمع من النظارة ومشاركين من الأكاديميين والإعلاميين الأمريكيين ومصريين فى الولايات المتحدة.
لا توجد هنا نية لعرض ما جرى فى هذا اللقاء، ولكن خلاصته أن مصر تحتاج إلى كثير من الجهود المخلصة لكى تعرض قصتها ومواجهتها لتحديات كبرى على العالم. هذه الجهود لا يكفى فيها عمل مؤسسة أو جماعة واحدة وإنما هى رسالة متكاملة تتكاتف عليها مؤسسات مصرية عدة. القصد هنا ليس الدعاية، ولا الإعلام بمعناه العام، ولا حتى «التسويق»، وإنما «المعرفة» عن مصر كما هى فى شمولها الممتد من البحر إلى البحر، ومن الخليج إلى الخليج، ومن رحلة النهر الخالد من الشلال إلى المصب. فما بين هذه وتلك توجد إضافات كثيرة غائبة، وما هو معلوم منها يعيش فى أضابير وملفات مؤسسات وشركات، وفى كل الأحوال فإن ما تبقى من المعروف منها غارق فى «ضوضاء» هجمات دعائية كاسحة على مدار الساعة تبثها قنوات وجماعات وأفراد متفرغة لتحويل البناء إلى ركام، والاستقرار إلى فوضى. كيف نتعامل مع ذلك يحتاج تغييرات فى السياسة وتعديلات فى المنهج والمضمون يجعل المسار أكثر سلاسة وأقل انكشافا وأكبر فى الفعالية. وبالتأكيد فإنه يحتاج تعاملًا إعلاميًا محكمًا عما عرفناه حتى الآن يلتحف بالمصداقية والصدق، ويكون شاملا للأدوات المعروفة لكى تبث «المعرفة» كما هى بلا زيادة ولا نقصان، ولا مباراة فيمن يكون الأعلى صوتا بين القاهرة وإسطنبول. لفت نظرى فى هذا الشأن محاولة جادة جاءت من الجامعة الأمريكية فى القاهرة، وبالتحديد من كلية إدارة الأعمال بالجامعة التى أصدرت مطبوعة باسم Business Forward أو المشروع إلى الأمام، وهذه احتوى عددها الأخير موضوعات مثل «فيما بعد الإصلاح الاقتصادى، كيف تتعامل مصر مع الصدمات الخارجية؟»، «هل الطاقة الجديدة المتجددة فى مصر أخبار طيبة للنمو الاقتصادى؟»، «لماذا من الممكن أن تحقق اتفاقية التجارة الإفريقية إشكالية لصناعة النسيج المصرية»، «الصناعات اليدوية المصرية، ما الذى يقف فى طريقها؟». فى الجامعة الأمريكية أيضا نشطت أخيرا مطبوعة مهمة «Cairo Review» التى تناقش قضايا الشرق الأوسط وما يحدث فيه من قبل دارسين وأكاديميين وخبراء فى العالم، ولكنها فى ذات الوقت تحرص على أن يكون ذلك بعيون مصرية، وفيها خبراء فى السياسة الخارجية المصرية. تعالوا معا نتصور أن جميع الكليات والجامعات المصرية العامة والخاصة بات لها مطبوعات ودوريات باللغات الأجنبية خاصة الإنجليزية فى أمور العمران والهندسة والاتصالات والمواصلات والثقافة والفنون. هذه بطبيعتها ليست مواد دعائية، ولا هى نشرات إعلامية، ولا يوجد التسويق واحدا من أهدافها، ولكنها بالضرورة تعرض وتدرس وتقيم ما يحدث فى مصر بعيون علمية تقديرية وناقدة. مثل ذلك سوف يصف بالضرورة حالة العمران المصرى فى هذه المرحلة، ومدى التطور الجارى فى منطقة قناة السويس، وارتفاع تنافسية القناة فى مواجهة الوسائل البديلة لنقل التجارة العالمية، والمتاحف المصرية الجديدة من المتحف المصرى الجديد إلى متحف كل الحضارات إلى متحف النسيج ومتحف نجيب محفوظ، وما جرى فى طرق مصر، وكيف تقف الصعوبات أمام رقمنة المحروسة. وسط هذا الكم الهائل من المحتوى، فإن الإعلام المصرى سوف يكون عليه المساندة فى النشر، والتوجهات فى التوزيع، والمناقشات فى البحث، والمقارنة مع دول أخرى، وهكذا أساليب للعرض والتقديم وتركيب قصة مصرية عميقة المعنى غنية السردية، ومفعمة بالحياة بكل ما فيها من أفراح وأتراح وآمال وطموحات وإحباطات أيضا.
المعضلة الرئيسية الواقفة أمام الخطاب المصرى إلى العالم الخارجى أنه مستدرج إلى التفاصيل الكثيرة، والمواقف الجزئية، وفى هذه وتلك يكون الفوز لما هو سلبى وناقص وغير مكتمل، والذى يأخذ فى ذلك سويسرا نموذجا فى السياسة، ودولة الخليفة عمر بن الخطاب نموذجا فى العدالة، وفى كل الأحوال تذوب القصة الأصلية المتكاملة التى تعرف بالتمام والكمال أين كنا وكيف أصبحنا، ومتى استقر القطر بعد فوضى، وجاء النور بعد الظلام، وكان الموجود فيه أقوى وأكثر من المفقود.
ما أشرنا إليه من مادة إعلامية يضع الأمور فى نصابها ونسبيتها، ويخاطب العالم الخارجى بلغة يفهمها ويقدرها. وربما كان ذلك واحدا من المداخل للمعضلة الإعلامية المصرية، ولكن المؤكد أن هناك ما هو أكثر.