«بيركشير» منطقة تقع شمال غرب ولاية «ماسشوستس» الأمريكية، وهى منطقة مرتفعة بتلال جميلة بخضرة وأشجار باسقة تخطف الألباب بسحرها، ولأنها كذلك فإن أغنياء الولايات الغنية فى نيويورك وفيرمونت ومين ونيوهامبشير يمتلكون فيللات وقصورا وكبائن فى هذه المنطقة الساحرة والبعيدة عن السواحل التى تخنقها الرطوبة فى فصل الصيف. الأغنياء من هذا النوع يريدون بالطبع الاستمتاع بإجازاتهم، والعناية بصحتهم الغالية، ولكنهم فى نفس الوقت يريدون لعقولهم وحواسهم ذات المتعة، ومن ثم فإنهم يحضرون معهم فرقا موسيقية للعزف والغناء الراقى بعد قضاء يومهم وسط حمامات الشمس والبخار، والتدليك والذى منه. ولأن الحياة ليست فقط للمتعة، فإن هناك بعضا من الفائدة عندما يكون هناك فهما أفضل للعالم، ولذا فإن الجماعة تقرر دعوة عدد من الخبراء فى منطقة من العالم أو فى علم من العلوم أو فى أى من غرائب الكون والخلق لكى يتحدثون عن أمور ليس لها علاقة لا بالمال، ولا بالثروة. وهنا جاء دورى لثلاث سنوات متوالية للحديث عن ذلك العالم العجيب، من وجهة نظرهم بالطبع، والمسمى بالشرق الأوسط. وفى هذا السياق تعرفت على الملياردير «هارولد جرينسبون»، الذى راكم ثروته فى مجال العقارات، والذى كان آنذاك فى العام الثانى والثمانين من عمره (الآن لا يزال حيا وقد تجاوز التسعين) ويمشى ستة أميال صباح كل يوم فى نشاط كبير. كان الرجل حريصا جدا خلال فترة إقامتى التى كانت خمسة أيام أن نتناول الغذاء مرة من أجل أن ينبش عقلى بملقاط حتى يعرف عن العقد المستحكمة فى منطقتنا، وكان أهمها فى ذلك الوقت الصراع العربى ـ الإسرائيلى.
فى المرة الثالثة قررت أن تكون الحالة معكوسة، وهى أن أكون أنا السائل وهو المجيب، وكان سؤالى هو كيف نجحت فى جمع مليارك الأول من الدولارات؟ وجاءت إجابته سريعة بأن المسألة أبسط كثيرا مما تعتقد، إذا عرفت أن الولايات المتحدة خمسون ولاية، وأنها ممتدة من محيط فى الشرق إلى محيط آخر فى الغرب، وفى الشمال تلامس كندا الباردة، وفى الجنوب تحتضن المكسيك الحارة؛ فإذا عرفت كل ذلك فإنك ستفهم أن أسعار العقارات فيها لا تنخفض ولا ترتفع فى نفس الوقت. ومن هنا جرى جمع المليارات كلها، بالشراء عندما تنخفض الأسعار، والبيع عندما ترتفع. فيما بعد بدت المسألة أكثر تعقيدا فقد ظهر أن الرجل الذى لم يحصل على تعليم جامعى، بدأ عن طريق إصلاح البيوت المهجورة، ثم بيعها مرة أخرى، ومن البيوت انتقل إلى المناطق والمجمعات السكنية حتى بات له فى كل ولاية بيعا وشراء وربحا فى كل الأحوال.
فهل نعرف نفس الحقائق البسيطة عن مصر، ولا بأس من تعقيدها بعد ذلك، لكى نصل إلى الاستنتاجات التى تجلب المليارات. هناك أربعة حقائق عن مصر تملك مفتاح غناها وفقرها، أولها أن مساحتها مليون كيلومتر مربع. وثانيها أن عدد سكانها الآن أكثر من ١٠٠ مليون نسمة. وثالثها أنها عاشت لأكثر من سبعة آلاف عام حول نهر النيل الذى باتت مياهه مقدسة لأنها أتت من دموع إيزيس التى تفجرت عند الشلال الأول فى أسوان. ورابعها أنها محاطة بثلاثة آلاف كيلومتر من المياه فى البحر الأحمر والأبيض وخليج العقبة والسويس وعدد من البحيرات المتناثرة، وكلها منعزلة عن وادى النيل بصحارى شاسعة. مجمع هذه الحقائق الأربعة أنه على عكس ما شاع لدى المصريين فإن العيش حول النهر ربما كان سر أسرار مجد مصر القديمة، ولكنه بعد ثلاثة آلاف عام من المجد فإن النيل فقد الكثير من سحره بعد أن جاء الغزاة، والأخطر تكاثر المصريين حتى غمروا الدلتا والوادى. الكتاب القدامى والمحدثون كتبوا عن «الدولة النهرية» فى مصر التى من ضيقها، بات توزيع الفقر وإدارته جزءا من مهام الحكم والإدارة. فإذا بات كل ذلك معقولا فإن الخلاص المصرى لن يكون إلا بالانتقال من النهر إلى البحر، ليس فقط من الناحية الجغرافية، وإنما من الناحية العقلية أيضا.
إذا كانت هناك فلسفة تشرح خططنا التنموية الآن فإنها تلك النقلة من النهر إلى البحر، وبالمعنى المباشر للكلمة فإن العاصمة القاهرة تتمدد الآن حتى يكون لها شاطئ على خليج السويس، المدينة المحاطة بالصحراء من كل الاتجاهات، ما عدا مضيق صغير من مياه النيل، زحفت بالعمران شرقا بالقاهرة الجديدة وما أعقبها من مدن صغيرة حتى لمست «العاصمة الإدارية» وهذه سلمت نفسها حتى قبل الاكتمال إلى مدينة الجلالة لكى يكون العمران فى العين السخنة التى هى بداية البحار الكبيرة والعميقة. بالمعنى المباشر أيضا فإن الأنفاق الستة المتصورة للعبور أسفل قناة السويس إلى سيناء تعطى لمثلث بورسعيد/ دمياط، القاهرة، العين السخنة منفذا إلى المياه فى الشمال والجنوب والشرق، ويصبح الأمر كما لو كانت الدلتا قد امتدت كزهرة اللوتس فاتحة ذراعها حتى تحتوى سيناء شرقا، بينما تمد ذراعها الآخر على الساحل الشمالى. ولم تكن هناك صدفة أن تخطيط الحدود البحرية وفقا لقانون البحار قد مد لنا أرضا فى البحرين للاستغلال الاقتصادى، سواء كان ذلك للسياحة، أو الخدمات المقدمة من وإلى قناة السويس، أو ظهور النفط والغاز.
هذه مصر مختلفة تماما، وبقى أن يكون المصريون مختلفون أيضا بما يليق بسكن البحار. فى نهاية القرن العشرين ذهبنا نحن مجموعة الصحفيين فى رفقة رئيس الدولة ورئيس الوزراء إلى «توشكى»، لأنه هكذا كانت المشروعات تدور وتأتى حول النيل، وإذا كان النيل منخفضا، صرفنا الكثير حتى نرفعه إلى أعلى. وقتها قال لنا الأستاذ/ طلعت الزهيرى رحمه الله، وكان كبيرا بيننا كصحفى ونقيب للصحفيين ورئيسا لمجلس إدارة صحف وكاتب لا يشق له غبار، أنه النيل الذى كلما بعدنا عنه فإننا نعود مرة أخرى. بدا الأمر ساعتها كأن الموضوع نوع من الأسرار المقدسة، ولكنها كانت آخر الألفية، ومع الألفية الجديدة فإن الدوران حول النيل لم يعد يكفى مائة مليون بعد أن قيل إن عدد سكان مصر فى أزهى العصور الفرعونية كان ثمانية ملايين نسمة. الآن يبدو الأمر مختلفا كما وكيفا، سوف يظل النيل جزءا من التاريخ والتراث والثروة، ولكن الأمم الحية تجدد تاريخها وتراثها على الأقل مرة كل ألف عام!.