بعد أكثر من خمسة قرونٍ من الظلم والجور والتشتت عاشتها منطقتنا في مرحلتين بالغتي الخطورة وهي مرحلة ما سُميت زورًا وبهتانًا بالخلافة العثمانية والتي امتدت حوالي أربعة قرون ونيف، وكذلك مرحلة ما بعد هذه الخلافة والتي اتسمت بتشكل الدول القوموية والاسلاموية على امتداد هذه الجغرافيا، والتي اتصفت كذلك بترويع المجتمعات وتنميطها وجعلها استهلاكية بامتياز.
وبالرغم من الثورات التي قامت في المنطقة للتخلص من الخلافة العثمانية وما لحقها من ثورات ضد ما سُمي بالاستعمار الفرنسي والبريطاني والايطالي وأخيرًا الامريكي، إلا أن هذه الثورات لم تخلص لا المجتمع ولا الإنسان من حالة التدهور والانحطاط الفكري والثقافي والاقتصادي وغيرها الكثير من النواحي، حتى وصل بالإنسان إلى حالة من فقدان الأمل واليأس من هذه الأنظمة التي تربعت على عرش السلطة على حساب دماء ملايين البشر للوصول إلى الحرية والتي ما كانت سوى مطية وشماعة بيد الأنظمة المتسلطة، لتصاب بداء حُب السلطة واحتكارها لنفسها فقط.
معظم المجتمعات حاولت الكثير للتخلص من الأنظمة القمعية بعد أن تم خداعها على مرّ عقود من الزمن بالشعارات القوموية البراقة والاسلاموية التي أعمت البصيرة قبل البصر. ورحنا نتقاتل على حدود رسمها لنا المستعمرون وأوطانٍ تأكل أولادها كي تبقى على قيد الحياة.
نسينا الجزارين سايكس – بيكو وما فعلاه في أرضنا، وذهبنا نبحث عن وطنٍ وتراب مقياسه السنتيمتر والكيلومتر واعتبرناه هو المقدس لا غير، وكأن أرض الله الواسعة لم تعد تعنينا بشيء سوى في أدعية المساجد والكنائس. وكأننا بمواقفنا نقول وندعوا للسيدين “سايكس – بيكو”، ناما قريرا العينين، لأننا ننهش ببعضنا أكثر مما خططتموه لنا ونحافظ على ما رسمته أيديكما بكل أمانة.
المجازر الدموية كانت من نصيب كل من رفض هذا التقسيم للجغرافيا على أساس قومويواسلاموي. فما قامت به تركيا بحق الأرمن والآشور والكرد، لم يكن أقل وحشية مما قم به صدام حسين بحق شعب العراق بكل مكوناته وأطيافه وكذلك ما حصل في اليمن الجزائر والسودان وغير من البلدان، ولكن من قبل بهذا التقسيم جوهرًا ورفضه شكلًا فلم يكن على أحسن حال، لأنه وصل لمرحلة من الانبطاح والذل والخوف يعيش في بلده وكل ما يتمناه أن يجد وسيلة أو طريقة ما للوصول لأرض من جزأنا وقسمنا (فرنسا وبريطانيا) وكذلك أمريكا، ومن بقي في الوطن راح ينتظر المعجزة والأمل كي يتخلص من أشباه الآلهة الذين نصبوا أنفسهم على العباد مبشرين بالجنة لكل من يتعبد لهم وبالنار لكل من يقول: “لا” و”كفى”.
سقوط القناع عن “الملوك العراة والآلهة المقنعة”، كما وصفهم السيد عبد الله أوجلان في مجلداته الي خطها في معتقله. والتي يشرح فيها السيد أوجلان وبإسهاب عن كيفية وصول هذه الشخصيات إلى سدة الحكم وعن كيفية احتكارها للثالوث المقدس عندهم “السلطة، القوة، المال”، والتي هي الشيفرة التي كانت مخفية بين ثنايا مصطلح “الدولة القوموية”، والتي وصفها الفيلسوف الألماني هيغل بشكل دقيق “الدولة هي ظل الله على الأرض”، وكل من يعارض الدولة كأنه يعارض الله وعليه تشكلت المؤسسات التي وظيفتها الأساسية هي حماية هذه الدولة القوموية “ظل الله”، من كل مهرطق وزنديق وكافر وخارج عن الملّلة. طبعًا، كلنا يعلم ما هي نهايتهم.
الآن وبعد خمسة قرون من الخلافة العثمانية والدولة القوموية تحاول شعوب المنطقة أن تتحرك قليلا لتنفض عن نفسها غبار الخنوع وما لحقها من خمول واغتراب عن ذاتها. على مرّ ثماني سنوات سقط ثماني من الملوك العراة الذين كانوا يعتقدون يومًا ما أنًّ عورتهم لم ولن يراها أحدًا من الرعية. إلا أن وعدُ الله حقٌ على المؤمنين بالعدل والحقيقة، وها نجن نرى كيف تسقط هذه الاصنام الواحد تلو الآخر ولا حزنٌ عليهم ولا بارك الله فيهم بما فعلوه بالمجتمع والبشر، إلا من رحمه الله وأوسعه بمغفرته.
بدأ السقوط الأول من صدام العراق والذي لم يعتبر منه أحد وتلاه بن علي تونس وقذافي ليبيا ومبارك مصر وصالح اليمن وبوتفليقة الجزائر وبشير السودان وأسد سوريا على الطريق، ولم يتبقَ من الملوك العراة والآلهة المقنعة والذي لم يزل هناك رهط من البشر يتعبدون بهما على أنهما خليفة المسلمين والمهدي المنتظر وهما روحاني إيران وأردوغان تركيا.
ليس هذا اليوم ببعيد أبدًا ما زالت الشعوب تعيش حالة الهيجان والفرح مع كل سقوط لحجر من أحجار الدومينو. وما أحلاها من لعبة وحبذا لو أدركنا معناها وقيمتها، لكنَّا لعبناها منذ الصغر للتعرف أكثر على قوانينها وكي أنه بلمسة غضب صغيرة يكون بمقدورك هزّ عرش أعتى الدكتاتوريين مما أصابهم داء الخلود. بالرغم من أنه لم تدم لفرعون مصر ولا نمرود أشور.
صدق أوجلان وقارب الحقيقة حينما وصف هذه المرحلة بأنها “ربيع الشعوب”، وأن الربيع آتٍ بالرغم من قسوة الشتاء وظلم الأنظمة التي إن قرأت التاريخ لا تفهمه وإن فهمته لا تستوعبه.