نشرت صحيفة الوطن مقالاً لسهير جودة بعنوان : ( الكذب وأشياء أخرى ) ، وجاء كالتالي :
فى مصر تبقى دائماً الحقيقة خجولة بلا سطوة بينما الشائعة والأكذوبة جسورة وواضحة وصاحبة التأثير والقوة والانتشار والشهرة، كل حدث يحدث يثبت هذا المعنى ويؤكده وإذا ثبت أن ما تم الانفعال به والتعامل معه على أنه حقيقة ويقين ما هو إلا شائعة وأكذوبة تبقى الشائعة هى صاحبة الوجود والحضور وتتضخم الأكاذيب ولا شىء يمنعها من المواصلة والقفز وكأنها ثعبان تلوى على نفسه ولم يعد يعرف موقع جحره، كل شىء فى مصر يثبت صحة ما أشبه اليوم بالبارحة، وما حدث فى الأيام الأخيرة مع خبر تمثال المطرية الذى تحول إلى قصص وروايات وأبعاد وتجويد، وكعادة وسائل التناحر الاجتماعى قامت بتصديره على أنه كارثة وكذلك شاشات التليفزيون والصحف وفى النهاية كانت الحقيقة شيئاً آخر مختلفاً تماماً، فهناك بعثة ألمانية تتعامل مع هذا التمثال منذ عشر سنوات وطريقة الإخراج الخاصة بالتمثال كانت الطريقة الصحيحة، ورغم ما تأكد من حقائق إلا أنها توارت بجوار ما صُنع من أكاذيب، فنحن نهوى دائماً الاشتعال ونغرم بوجود الجاز والكبريت، نفس الشىء حدث مع سارق الشيكولاته الذى اتخذت منه مواقع التناحر موقفاً من الفقر ومن الثراء وأخرجت كل مخزون الامتلاء بالحقد فى صورة تعاطف مع الرجل الذى سرق شيكولاته ليعطيها لابنه لأنه لا يمتلك ثمنها، وأثبتت الحقيقة أنه يقوم بذلك بشكل ممنهج وأنه قام بسرقة شيكولاته بخمسة آلاف جنيه وبيعها لمحلات التجزئة وليس لديه أبناء صغار، ولكن ما يحدث فى مصر أننا نبحث عن أى أكذوبة لنفرغ فيها كل المكبوت والغضب، ونجتهد بسخاء ليكون أضخم ما ننتجه هو الكلام والفتى والتمرد السلبى وادعاء الفهم والمعرفة، ويبدو أننا نجد السعادة فيما ننتجه من ضجيج يأتينا من مواقع التناحر الاجتماعى ونحن نجلس على أرائك فاخرة أو فى مقاه صاخبة أو على رصيف الفقر والبطالة واليأس ومن انفعال إلى نقيضه ومن حماس إلى نسيان، لأن المناخ العام يجعلنا إما أوفياء لليأس والقلق، وإما منتجين للأكاذيب، فشرايين المجتمع الرئيسية مسدودة فى مثل هذا التوقيت تقريباً، فى العام الماضى كتبت فى نفس المساحة عن الكوارث التى ستلهو بنا وتدمرنا نتيجة انسداد شرايين المجتمع وبعد مرور عام ما زلنا فى نفس النقطة لم نبرحها، ما زلنا نعيش على نفس خط الخطر، وكأن لدينا مكابرة على البقاء فى هذه الحالة البائسة، الكل يعطى أذنه للكل ولا أحد يريد عمل جراحة لقلب الوطن المعتل، لا نزال نفس المجتمع ولا توجد أى بادرة تنفى أو تشكك فى أننا مجتمع يدير ظهره للعلم والتفكير والتنوير، وكل ما يحدث يؤكد أننا نحتفى بارتداء خمار الجهل وعباءة الوهم وخلع منهج العلم، ولا نعترف بأن المجتمع الذى بينه وبين العلم والتفكير عداوة سيبقى أسيراً للضعف والتراجع وسيعيش مفلساً من التنوير، متى سيفيق المجتمع ويحتشد من أجل فتح مسارات فكر وتنوير تجذب من يطمح إليها، فالمناخ العلمى والتعليم الصحيح لن ينتج عاطلين وإنما طاقات موجهة ومنظمة يحصد الوطن ثمارها ويتحقق كيان الإنسان فى العلم أياً كانت درجة ونوعية تعليمه، إذا أيقنت الدولة أهمية وضرورة فتح هذه المسارات فلن نحتاج إلى محاربة الإرهاب، فالخطاب العام فى المجتمع سيصبح ثقافياً تنويرياً، وسيتخلص من فقر فكر الصحراء العابسة بقيظها إذا فتحت الدولة مسارات حقيقية للعلم والبحث العلمى، فى ظل مناخ علمى طبيعى يكون فيه التعليم منظماً وذكياً وليس ماسورة تضخ بشراً وشهادات رسمية دون اعتبار لاحتياج سوق العمل واحتياجات الوطن، شرايين المجتمع مسدودة وأهم أسبابها غياب العلم، وإذا عادت قيمة التعليم يعتدل الهرم الاجتماعى وتختفى القيم الرديئة من فهلوة ونصب وادعاء وأكاذيب وشائعات، وستختفى أيضاً أجزاء من الفساد، فهناك مساحات كثيرة تنشأ لأن موازين القوى الاجتماعية تعلن الانتماء والاقتداء بالمال وليس للعلم والقيم والرقى، التقييم المادى للإنسان فساد أخلاقى ومجتمعى، لو كانت اتجاهات التعليم والتفكير والثقافة سليمة فهى كفيلة بإعلان انتهاء موجات الفساد الاجتماعى والمال الدينى والسياسى، إذا فتحت الدولة مسارات الإبداع والابتكار سيخرج المجتمع من أزمات كثيرة نتيجة عقم الخيال وانسداد أفق الابتكار، ففى كل مناخ علمى وثقافى يصبح قلب الوطن صحيحاً معافى، لأن كل إنسان واجتهاده وإمكانياته العلمية والعقلية والإبداعية، فالكفاءة والمقدرة والإرادة والاجتهاد هى المعيار وليست الواسطة أو الصدفة، وأى اعتبارات أخرى، إذا كان المناخ العام منحازاً للتنوير والتقدم والرقى ومحرضاً عليه لن تكون الأيام والليالى فى مصر موصولة بكلام فى كلام من شائعات ومن أكاذيب وما أشبه الليل بالبارحة.