نشرت صحيفة الأهرام مقالاً لنادر نور الدين محمد بعنوان : ( هل تتكرر مأساة الأرز مع القمح ؟ ) ، وجاء كالتالي :
من المعروف أن القمح المصرى من الأقماح الفاخرة فى العالم، وأن اشتراط درجات نظافة لتسلم القمح من المزارعين تتراوح بين 22.5 إلى 23.5 قيراط تعنى أنه تم تصنيفه كقمح درجة أولى والذى يحتوى على شوائب ونسبة كسر حتى 3%. وبسبب ظروفنا الاقتصادية طوال العقدين الماضين فليس خافيا على أحد أن مصر تستورد أقماح الدرجة الثانية بنسبة كسر وشوائب تتجاوز 6% وبالتالى فمن الواجب عند تحديد سعر شراء القمح المصرى من المزارعين أن يتساوى مع أسعار قمح الدرجة الأولى فى البورصات العالمية وليس الدرجة الثانية.
يبلغ سعر قمح الدرجة الأولى حاليا نحو 250 دولارا للطن، وبحسابه على أساس أن سعر الدولار حاليا نحو 18جنيها فقط فيكون سعر الطن من القمح المستورد 4500 جنيه وبالتالى يكون وزن الإردب زنة 150 كجم 675 جنيها، بخلاف مصاريف النقل البحرى وتكاليف التفريغ فى الموانى المصرية ثم النقل الداخلى من الموانى إلى جميع المحافظات والتسهيلات والرسوم الإدارية والتى تضيف نحو 50 دولار أخرى إلى تكاليف استيراد الطن الواحد.
تعهدت الحكومة المصرية عبر تصريحات عديدة بشراء القمح من الفلاحين بالسعر العالمى المماثل لنوعية القمح المصرى مع إضافة تكاليف النقل البحرى والتفريغ وغيرها إلى هذا السعر كنوع من دعم الفلاح، وحتى تقطع الطريق على التجار من الاستحواذ على القمح المصرى الفاخر، وأيضا لمحاربة الفقر فى الريف وتربيح الفلاح، ولكن يبدو أن السعر الذى وضعته الحكومة لشراء القمح وهو 555 جنيها للإردب درجة نقاوة 22.5 قيراط وهو الذى ينطبق على 99% من إنتاجنا من القمح المحلي، حيث إن آلات الدراس البلدية التى تعمل على سير الجرار لا يمكن أن تعطى درجة نظافة أعلى من هذه الدرجة بل وربما أقل بما يضطر الفلاح إلى بيعه للتجار بسعر أقل من سعر الحكومة ثم يقوم التجار بطريقتهم بتوريده للدولة، وأن مايقال عن درجات نظافة 23 أو 23.5 قيراط مجرد كلام حيث لا يمكن الوصول إليها فى مصر إلا لنحو 1% فقط من مزارعى أراضى الاستصلاح الذين يستخدمون آلات الحصادر والدراس الغربية وبالتالى فلا حديث عن أسعارهما التى لا تنطبق على قمح الفلاحين.
ومن المعلوم فى مصر أن الحكومة المصرية تستورد قمح الرغيف البلدى المدعم فقط الذى لا يتجاوز 5 ملايين طن بالإضافة إلى ما تتسلمه من القمح المحلى من المزارعين بينما تترك استيراد قمح المكرونة وقمح الدقيق والرغيف الحر ورغيف الرصيف والسوبر ماركت والمخبوزات الأفرنجية والحلويات إلى القطاع الخاص وهى تتراوح بين 6 إلى 7 ملايين طن سنويا طبقا لبيان هيئة القمح الأمريكى وبورصة شيكاغو للحبوب
فى موسم الأرز المنتهى وضعت الحكومة سعرا لتوريد الأرز المحلى من المزارعين يتراوح بين 2300و2400 جنيها للطن من الأرز رفيع وعريض الحبة على الترتيب، وكتبنا وقتها فى هذا المكان بأن هذا السعر ظالم ولن يرضى به الفلاح المصرى وأن الغرض منه هو إخراج الحكومة المصرية من منظومة شراء الأرز وأن التجار سيزايدون على هذا السعر من أجل احتكار الأرز المصرى الفاخر، والذى يفوق كثيرا على مثيله الهندي، والنتيجة أن التجار اشتروه من الفلاحين بسعر يتراوح بين 3200 ـ 3400 جنيه للطن. ثم قدمنا النصيحة لوزير التموين السابق بعد توليه المسئولية من زميله الذى وضع هذا السعر المتدنى بأن يساير آليات السوق عندما أعلن أن رصيد الدولة من الأرز صفر وأنها لم تتسلم ولو كيلو جراما من الأرز من المزارعين! فنصحناه أن تشترى الحكومة الأرز من المزارعين بسعر 3500 جنيه للطن من أجل إنقاذ الموقف إلا أنه رفع السعر إلى 3000جنيه فقط متصورا أن الفلاح سيخسر 400 جنيه للطن من أجل توريده للدولة أى نحو 1600 جنيه، فى محصوله للفدان الذى يصل إلى 4 أطنان. النتيجة أن كيلو الأرز المصرى الذى رفضت الدولة شراءه من الفلاح بسعر 3.5 جنيه للكيلو جرام ويقف عليها بسعر 4.5 جنيه بعد الضرب والتبييض تشتريه الآن من التجار بسعر 6.5 جنيه ومن أرز الدرجة الثالثة بنسبة كسر 12% بسبب سوء تقدير الموقف وعدم الاستجابة لآليات الأسواق، والسماح للتجار باحتكار الأرز المصرى كاملا ولتعويض هذا قامت الدولة باستيراد الأرز الهندى بسعر 450 دولارا للطن واصلا إلى الموانى المصرية أى 9 جنيهات للكيلو بمواصفاته غير المناسبة لنمط استهلاك المواطن المصرى للأرز بما اضطرها إلى تخفيض أسعاره إلى 7 جنيهات بالخسارة من أجل تصريف ما استوردته وهى تعلم أن المواطن لا يفضله.
نفس هذا الأمر يتكرر الآن حين تضع الدولة سعرا لتسلم القمح من المزارعين أقل من السعر العالمي، بما يعنى وصوله للتجار لتوفير تدبيرهم للدولار بالإضافة إلى توفيرهم لنحو 800 جنيه فى الطن لو استوردوه فى الخارج، وبما سيدفع الحكومة إلى استيراد قمح الرغيف المدعم بسعر أعلى من سعر القمح المصرى بنفس الفارق السابق بالإضافة إلى تكاليف لجان المناقصات والتعاقدات وغيرها واستيراد قمح من الدرجة الثانية لنستبدل الذى هو أعلى بالذى هو أدنى من المستورد.
نعلم أن البعض لا يتعلم بسهولة من أخطائه، وكثيرا ماتكون الأولويات غائبة فى فكر بعض المسئولين مثلما رأينا ترك أولوية ضبط الأسعار المنفلتة فى الأسواق المصرية وترك تدبير السلع الأساسية على بطاقات التموين، وترك تحسين مواصفات الرغيف البلدى لبناء الثقة مع الشعب، وتركنا كل هذا لنذهب إلى إصلاح فساد منظومة الرغيف البلدى ودون الاستعداد لها بإجراءات مسبقة ومحسوبة بما أدى إلى مشاكل كانت الدولة فى غنى عنها أما قول وزير الزراعة أمام البرلمان إن القمح المصرى لن يذهب للتجار فهو مجرد كلام مرسل بلا مرجعية لأن توريد القمح فى القانون المصرى اختياري وليس إجباريا وبالتالى لا يملك وزير الزراعة أى آلية لضمان عدم بيع الفلاح للقمح بأعلى سعر ووصوله للتجار مادامت الدولة تجور فى الأسعار على فلاحيها وتترك القمح كما تركت الأرز للتجار.