نشرت صحيفة لوطن مقالاً للكاتب عاطف بشاى بعنوان : (رسـالة إلى وزير التعليم ) وجاء كالتالي :
فى كتابه الهام «مستقبل الثقافة فى مصر»، وهو عبارة عن عدة مقالات مجمعة (1935)، ناقش عميد الأدب العربى «د. طه حسين» أهم المشكلات التى تتعلق بمستوى التعليم والثقافة فى مصر، وأكد أهمية تحرير التعليم من مفهوم «التلقين» من خلال رفضه توزيع كتب معينة على الطلاب فى المراحل التعليمية المختلفة، وأوحى بضرورة ترك الحرية للطالب فى القراءة والاستيعاب من كتب تقرر الوزارة أنها صالحة فقط، وليس أنها الأصلح، فالتعليم غير المباشر هو القادر وحده على تطوير التعليم والتقدم والنمو الفكرى والعقلى للطالب ومساعدته على الخلق والابتكار، وينمى فيه ملكة البحث والرغبة فى المعرفة والاطلاع واستخلاص النتائج.
من المنطلق السابق يمكننا ببساطة أن نرصد أهمية إحداث طفرة فى المناهج الدراسية التى لا تتناسب بأى درجة من الدرجات مع مسيرة تطور البشرية، حيث إنه للأسف الشديد لم ينتبه أحد ولم يسعَ مسئول منذ صيحة «طه حسين» فى ثلاثينات القرن الماضى إلى هذا التطوير، بل الحال سار من سيئ إلى أسوأ.. عبّر عنه الناقد «شعبان يوسف» فى مقال له قال فيه: «لو تخيلنا أن العميد الدكتور طه حسين استيقظ من موته فى هذه الآونة وانتبه إلى ما يحدث فى التعليم، وتصفّح بعض ما تقرره اللجنة الموقرة على طلاب المدارس لطلب أن يعود إلى مقره مرة أخرى وندم على كتابة كتابه (مستقبل الثقافة فى مصر) الذى قدمه لوزارة المعارف فى عام 1937 ليكون منهاجاً لمستقبل التعليم، وفحوى ندمه أنه أجهد نفسه وأبرز جميع ما تتطلبه العملية التعليمية من طاقات ولكن لا حياة لمن تنادى، وكأنه أطلق صرخته فى جماد أو فى وادٍ فلم يستمع أحد ولم تعتبر الأجيال التى تلته أن ما كتبه له علاقة بأى مستقبل».
وتأييداً لما قاله الناقد فإن «الجمود» هو العنوان المناسب الذى يمكن أن نطلقه على شكل المناهج التى تخلفت تخلفاً بيّناً عن العصر، فما زال مثلاً أطفال جيل الكمبيوتر والإنترنت يدرسون «البساط السحرى» و«مصباح علاء الدين» و«الأرنب كوكى» الذى ركبه الغرور فرفض اللعب مع إخوته «مونى وسونى» بينما الأطفال فى المدارس الأجنبية الذين يماثلونهم فى العمر يدرسون مسرحيات شكسبير باللغة الإنجليزية.
وقد كانت لى تجربة منذ سنوات ليست بالقليلة من خلال فيلم تليفزيونى هو «محاكمة على بابا» الذى كتبت له السيناريو والحوار وناقشت من خلاله رفض طالب حفظ أشعار «البحترى» و«أبوتمام» اللذين ينافقان الحكام بالمديح إذا أجزلوا لهما العطاء.. وينقلبان شاتمين يهجوانهم هجاء قاسياً إذا ما كفوا أيديهم عنهما.
وقد عُقد بعد عرض الفيلم مؤتمر عام لمناقشة المناهج وتطويرها، لكنه للأسف لم يسفر عن شىء على الإطلاق.
أما الاستجابة الوحيدة التى تمت فى الفترة الأخيرة من اللغط المثار حول المناهج واكتشاف الكثير من الآراء أو الأحداث المتطرفة بها، والتى تؤدى إلى شيوع العنف، فقد لاحظت أن الملفات التى تطرح طرق علاج هذه الأخطاء لم يسعَ من خلالها السادة الجهابذة المسئولون سوى إلى «الحذف».. وليس «الاستبدال».
يذكّرنى ذلك بقصة أسطورية فحواها أنه فى منطقة نائية مهجورة يقبع فندق قديم بالقرب من شاطئ بحر ممتد، يدخل رجل بالغ الطول يحمل حقيبة صغيرة من باب الفندق يطلب حجرة مفردة، لكنه ما إن يستقر داخل الغرفة حتى يفاجأ بأن السرير الموضوع بها صغير لا يتسع لطول قدميه ويطلب استبداله.. موظف الاستقبال يتصل بصاحبة الفندق التى تقيم به، فتتجه بنفسها إلى النزيل، وتحاول أن تقنعه بالامتثال للأمر الواقع والموافقة على النوم متكوراً مقرفصاً وهو يضم قدميه إلى صدره، يرفض، ويصر على استبدال السرير بآخر يناسبه فى الطول.. تُبدى السيدة أسفها لعدم وجود سرير بالفندق بالمواصفات المطلوبة، يرفض البقاء، لكنها تستوقفه مؤكدة له أن هناك حلاً حاسماً سوف يروق له كثيراً وتستمهله لدقائق، تنصرف وتعود ومعها نجار واثنان من خدم الفندق الأشداء اللذان يسرعان بشلّ حركته وتقييده وطرحه على السرير، ليبدأ النجار مباشرة عمله بنشر الأطوال الزائدة من قدمَى النزيل ليصبح طوله ملائماً لطول السرير.
والحقيقة أنه ليس بحذف الدروس غير المناسبة -على طريقة نشر ساقَى النزيل- يتم تطوير المناهج بالابتعاد عن أى دروس قابلة للتأويل حتى يغلقوا كافة الفرص أمام حدوث حالة من الجدل، وكأن الجدل شىء ذميم ينبغى التخلص منه.. وهذا يكرس لنكبة التعليم فى مصر القائم على التلقين والحفظ وترديد ما تم حفظه كالببغاوات دون اجتهاد فى الاستنتاج والاستنباط والاستقراء والبحث والمناقشة وتبادل وجهات النظر والحوار حول القضايا المثارة.. وهذا معناه الجمود وعدم إعمال العقل والاستسلام للمسلمات وقوالب التعبير المتحجرة والقضاء على أى تطوير.
ليس الحل هو ما طرحه وزير التعليم الحالى «طارق شوقى» بإلغاء الثانوية العامة والاعتماد على التقديرات التراكمية للطالب، لأن ذلك سوف يؤدى حتماً ومباشرة إلى تفشى كارثة الدروس الخصوصية لاضطرار الطلاب إلى محاولة الحصول على أكبر درجات ممكنة خلال السنوات الثلاث للمرحلة الثانوية من خلال استرضاء المدرسين واستقطابهم، بينما يظل التطوير عن طريق الثورة على المناهج العتيقة المتوارثة والاعتماد على الحفظ والتلقين الذى تحدّث عنه الوزير حينما أعلن أنه سيعمل على تحويل التعليم على متعة والقضاء على الأساليب البالية التى تؤدى إلى تفريخ أجيال تفتقر إلى الخيال والتفكير والابتكار، ولكن يبدو أن الخطة النهضوية تلك سوف تقتصر على شكل الامتحانات فقط ومنهج التقدير التراكمى، ليعود أباطرة مدرسى الدروس الخصوصية الذين يطلقون على أنفسهم صفات يكتبونها فى الإعلانات على الجدران مثل «صاروخ اللغة العربية» و«قاهر الفيزياء» و«عبقرى التاريخ»، وبهذا الشكل أيضاً تستفحل كارثة الغش الجامعى الذى يتم التعامل معه أمنياً كما يتم التعامل مع «الإرهاب».