أقلام حرة

فاطمة ناعوت تكتب…ماراثون أطفال المستحيل

كان يومًا مُشرقًا، توّجتْ فيه الشمسُ صدرَ السماء، فغَمرتِ الأرضَ الخضراء بأشعّةِ الذهبِ المراوغة التى تتسلّلُ بين بقاع الظلال فترسمُ لوحاتٍ بهيةً أبصرنا فيها ملامحَ ربّاتِ الجمال يمسحن بعصاهنّ السحرية على رؤوس المُتعبين من بنى الإنسان، فيضجّون بالصحة والحياة. إنه يومُ انتصارِ الحياة على الموت. اليومَ تُسجّلُ الحياةُ هدفًا فى مرمى الوَهَن والمرض. شاهدنا بعيوننا المرضَ يخُرُّ مدحورًا أمام صفعة الحياة على وجهه. لا شىء يعلو «حقَّ الحياة». ولا حقَّ أحقُّ من حقِّ الحياة.

دعوةٌ طيبة وصلتنى من السيدة «سلوى البورينى» نائب أول حاكم نوادى ليونز إيليت، لمشاركة أطفال مستشفى ٥٧٣٥٧ فى ماراثون خيرى لصالح الصغار ذوى البأس قاهرى المرضِ الأشِر الذى يفتك بالأجساد النحيلة. لكن تلك الأجساد فى نحولها تزدانُ بدروع صلبة مضفورة بالرغبة فى الحياة، من أجل إسعاد أمهات حزيناتٍ يقفن على باب الرجاء حتى يُشفى أطفالهن وطفلاتهنّ فيعودوا لمدارسهم وكراريس الرسم والدُّمى ودروس الموسيقى والحساب، بعدما يغادرون الغرف المعقّمة وأنابيب المحاليل وجلسات الكيماوى وإبر الأمصال الموجعة.

كنتُ خارجة لتوّى من عملية جراحية. منهكةً تُكسِّر آثارُ المخدّر أوصالى. لكننى عزمتُ عزمى على النهوض من كبوتى حتى أستمدَّ من قوة الأطفال المُعافين قوّةً وأملاً. دعوتُ بدورى صديقى رأفت إسكندر، سفير النوايا الحسنة بالأمم المتحدة، فى زيارته للقاهرة، للمشاركة فى الماراثون لدعم الأطفال وتشجيعهم. وكان استادُ القاهرة الرياضى ضاجًّا بالحياة صاخبًا بالحب. كلُّ أولئك البشر من إعلاميين وفنانين وسفراء ووزراء وقيادات من القوات المسلحة والشؤون المعنوية، جاءوا ليحتفلوا بلحظة انتصار الحياة على شرف أطفال المستحيل بصحبة د. شريف أبوالنجا مدير مستشفى ٥٧، وعلى ضيافة اللواء على درويش مدير استاد القاهرة وقيادات نادى ليوإيليت. صدح السلام الجمهورى فى أرجاء الفضاء، ثم بدأ مارش الشرف لطاقم كشافة وادى النيل بالطبول والأبواق التى تناغمت مع دقّات قلوبنا العامرة بالرجاء فى الله وفى طاقم الأطباء والتمريض بالمستشفى الذين يصلون الليل بالنهار من أجل إشفاء أطفال السرطان.

نسيتُ وهَنى وأنا أُبصرُ الأطفال وقد غادروا وهنَهم وأشرقت وجوهُم بالصحة والفرح. جاء البلياتشو «عمو كروان»، معدّل السلوك بالمستشفى الذى يتقن مهارات «العلاج بالفن»، فى شعره الأخضر وأنفه الأحمر وكفّيه البيضاوين وبدلته الصاخبة بألوان الربيع، ليشارك الأطفال فرحتهم بالشفاء.

بدأ الماراثون بحشود المصريين مع ثلاثين طفلاً من أطفال المستحيل، وعُقدت ورش الإنتاج الفنى، وفُتحت معارض المنتجات اليدوية بأيدى أطفال المستشفى، وأقيمت ماتشات وديّة بين أطفالنا وأشبال نادى المنتخب القومى لكرة القدم، وجُمعت التبرعات الرمزية لتضخّ بعض الدماء فى قلب المستشفى الأسطورى الذى شيّده المصريون بأموالهم لننجو بأطفالنا من ويل الهزال والمرض.

أسميتُه فى مقال سابق «زهرة فى الأرض الموحشة». زهرةٌ فائقةُ الجمال، تورقُ كل يوم وتكبُر فوق أرض، كانت بالأمس القريب مكانًا موحشًا يحتلّه «المذبح» القديم بحى السيدة زينب. فتحوّل مكانٌ مخصص «لذبح الحيوان»، إلى واحة «لإحياء الإنسان». بل هو أرقى فصيل الإنسان: أطفالُ مصر ممن اختبرهم اللهُ بمحنة السرطان اللعين.

نبتت فكرة المستشفى، قبيل الألفية الجديدة، فى عقل طبيب شابٍّ، د. شريف أبوالنجا، آمن بأن الجهود الأهلية قادرةٌ على فعل ما تعجز عنه مؤسسات الدول. فخصص المحترم د. عبدالرحيم شحاتة، محافظ القاهرة آنذاك، تلك الأرض للبناء، ثم تضافرت جهود المصريين، من رجال أعمال شرفاء على رأسهم الراحلة الجميلة علا غبور، وأبناء الجاليات المصرية بالخارج، ومواطنين بسطاء من مثقفى مصر الواعين منهم «الحاجة زُهرة»، بائعة الجرجير، التى تبرعت للمستشفى بخمسة جنيهات، إضافة إلى الشيخ زايد ومؤسسته، فى تشييد هذا الصرح الهائل، الذى تُذهل حين تزوره؛ لما تلمسه من نظافة فائقة، وبراعة فى الإدارة، ونظام مدهش فى العمل، والحبّ الغامر من قِبل طاقم التمريض والأطباء لأولئك الأطفال الذين اختبرتهم السماء باختبارها الصعب. طوبى للطيبين الذين يبنون الوطن.

زر الذهاب إلى الأعلى