خطاب دونالد ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع الماضى كان بالفعل خطابا تاريخيا ليس لأنه قال كلاما جديدا لم يردده من قبل، وإنما لأنه وضع كل ما ردده خلال الحملة الانتخابية الرئاسية وما بعدها فى إطار نظرية متكاملة حول النظام الدولى وما يجب أن يكون عليه. المؤكد أنه ألقى ثلجا باردا على الحاضرين فى قاعة الأمم المتحدة فيما يخص مجموعة من الأفكار التى باتت نوعا من الأقداس التى لا يجوز المساس بها وتدور حول فكرة «العولمة»، والعودة بها مرة أخرى إلى فكرة «السيادة» التى تعنى السلطة المطلقة للدولة على أراضيها. صدق أو لا تصدق أن ذلك يأتى من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية التى لديها من السلاح والمال وعناصر القوى الناعمة والخشنة ما يجعلها قادرة تماما على الدفاع عن نفسها، بل ويجعلها قادرة على التدخل فى شؤون الدول الأخرى. وفى بلادنا، ومنطقتنا، فإن كثيرا من الأحبار سكبت على اعتبار «العولمة» ظاهرة أمريكية نقية، وما قيل عن «الأمركة» و«التغريب» كان مترادفات للسيطرة والهيمنة ممن كانت لديهم أدواتها من التكنولوجيا إلى التجارة والصناعة وكل الأدوات التى تجعل من الدنيا «قرية صغيرة» يمكن اختراقها بأقل التكاليف.
الحقيقة لدى ترامب لم تكن كذلك، فالسيادة الأمريكية على الدولة لم تكن تامة فحتى الولايات المتحدة لا تستطيع أن تغير ما استقر عليه العالم من قواعد لدخول وخروج الطائرات المدنية على سبيل المثال إلا حسب القواعد التى تقررها منظمة «آياتا»، ولا حتى التصرف فى البريد، وكذلك فى قواعد المنافسة الخاصة بالصناعة والتجارة التى باتت تجرى وفق قواعد للتنافسية تضعها منظمة التجارة العالمية. وإذا كان الدولار هو العملة الأمريكية الرسمية فإن أكبر الاحتياطيات الموجودة منه هى الأكبر بعد الولايات المتحدة فى الصين بمقدار يصل إلى ١.٨ تريليون دولار، ولم يكن ممكنا لبكين أن تراكمها لولا الفائض الحاد فى الميزان التجارى مع واشنطن. وبشكل عام فإن العولمة أثرت سلبيا على أمريكا من زاويتين: الأولى أنها قسمت الولايات المتحدة إلى فريقين من الولايات: تلك التى دخلت الثورة الصناعية الثالثة وتجرى فى الرابعة أيضا مثل كاليفورنيا ونيويورك ومعظم ولايات الساحل الشرقى على المحيط الأطلنطى، والغربى على المحيط الباسيفيكى وتلك فى عمومها ليبرالية «متعولمة» وغنية ومؤمنة بالاندماج الدولى وديمقراطية الهوى فى الانتخاب والتصويت؛ وتلك التى لا تزال تعيش ظروف الثورة الصناعية الثانية والتى باتت معروفة بالولايات «الصدئة» فى الجنوب ووسط الغرب وهذه باتت تنافس العالم الذى ينتج الحديد والصلب والألومنيوم والأسمدة والموارد الطبيعية التى توجد فى مناجمها، وهذه لا تحب العالم، وباتت جمهورية الهوى.
الزاوية الثانية أن التنوع الأمريكى أفقد أمريكا هويتها الأصلية بعد أن تناوبت عليها الهجرات القادمة من كل أنحاء العالم وخاصة من حدودها الجنوبية التى أصبحت مخترقة إلى الدرجة التى باتت فيها مؤثرة فى التوازن السكانى والسياسى، وشكلت عبئا على الضمان الاجتماعى والتعليم والصحة. وعندما أتت الهجرات من الشرق الأوسط والعالم الإسلامى فإنها من ناحية كانت مستعصية على الاندماج، ومن ناحية أخرى تولدت عنها أشكال من التعصب والإرهاب الذى كانت قمته فى أحداث الحادى عشر من سبتمبر، وما جاء بعد ذلك من عمليات إرهابية فى «سانبراندينو» و«أورلاندو» و«بوسطن». وبغض النظر عن هذه الزاوية أو تلك، فإن إعادة التركيز على «السيادة الأمريكية» أخذ يتوسع بعيدا عن المنظمات الدولية متعددة الأطراف لكى يشمل كافة التحالفات الدولية التى عرفتها أمريكا منذ الحرب العالمية الثانية حتى الآن بما فيها حلف الأطلنطى والعلاقات الخاصة مع اليابان وأستراليا؛ وحتى الاتحاد الأوروبى الذى وضعت أمريكا بذرته الأولى مع مشروع مارشال لإنعاش أوروبا بعد الحرب.
خطاب ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة لم يكن فقط إعلانا عن رغبة أمريكية فى دفن «العولمة»، وإنما أيضا إرساء لمجموعة من السياسات الأمريكية الجديدة التى تقوم على الحماية وربما القومية العنصرية. الملاحظة الأولى على هذا المنهج أنه ربما لا يشكل جديدا فى السياسة الأمريكية حيث نجد له جذورا فى خطاب الوداع لجورج واشنطن الذى قال فيه إن «القاعدة الأولى التى تحدد علاقتنا مع الأمم الأخرى هى أن نوسع من علاقاتنا التجارية، وأن نحد قدر الإمكان من العلاقات السياسية». ولأول مرة منذ وقت طويل فإن رئيسا أمريكيا بات يستعيد «مبدأ مونرو» والذى بمقتضاه أن تبتعد أمريكا عن العالم، ولكنها تريد العالم أيضا أن يبتعد عنها ويترك لها «المجال الغربى» للأمريكيتين الشمالية والجنوبية. العنوان العام هنا هو «العودة إلى السيادة» ولخصها ترامب عندما قال: «إننى أحترم حق كل أمة فى هذا المكان (الأمم المتحدة) أن تتبع عاداتها ومعتقداتها وتقاليدها.
إن الولايات المتحدة لن تقول لك كيف تعيش أو تعمل أو تعبد. ونحن نطلب منك فقط أن تحترم سيادتنا أيضا». هل يمكن لهذه العودة إلى السيادة أن تنجح، أم أنها تعود بنا مرة أخرى إلى تلك الأجواء الدولية التى تلت فشل عصبة الأمم وانهيار النظام الاقتصادى الدولى بعد الكساد الكبير (١٩٢٩ـ ١٩٤٥) نتيجة الحروب التجارية التى كانت بين أسباب الحرب العالمية الثانية؟ وهل يمكن فى ظل أمم منعزلة عن بعضها البعض أن تبقى السيادة والقومية بعيدة عن «العنصرية»؟ أم أن الأكثر ترجيحا هو أن كثيرا من أبواب جهنم سوف تفتح من جديد داخل الولايات المتحدة نفسها بين الولايات المختلفة، أو تستعر جذوة الحرب الأهلية الأمريكية بين البيض والسود والملونين؟ وقبل كل ذلك وبعده فهل يمكن هزيمة «العولمة، فالمدهش أنه وسط ذلك كله فإن حجم التفاعلات الجارية على شبكة الإنترنت فى العالم خلال ٦٠ ثانية تبلغ ٩٧٣ ألف تسجيل دخول على موقع «الفيسبوك»، ٣.٧ مليون عملية بحث عبر «جوجل»، و٢٦٦ ألف ساعة مشاهده على «نتفليكس»، و٣٨ مليون رسالة عبر تطبيق «هواتسآب»، و٨٦٣ ألف دولار مشتريات، و٢٥ ألف صورة، و١٨ مليون رسالة نصية، و٤.٣ مليون مشاهدة فيديو، و٣٧٥ ألف تحميل، و١٧٤ ألف تصفح، و٤٨١ ألف تغريدة، و١٨٧ مليون رسالة إلكترونية. كل ذلك خلال دقيقة، فماذا يكون الحال خلال ساعة أو يوم أو شهر أو سنة، ودون الدخول فى التفاصيل فإن كل ذلك يعكس حالة من التفاعل الإنسانى فى مجال واحد هو الاتصالات، فإذا ما أضيفت له كافة أشكال التفاعل الإنسانى من تجارة وإنتاج وابتكار ومواصلات وهجرة وانتقال سوف نعرف أية ثورة يعيشها الإنسان للعولمة فى هذه المرحلة من التاريخ!!.
خطاب دونالد ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع الماضى كان بالفعل خطابا تاريخيا ليس لأنه قال كلاما جديدا لم يردده من قبل، وإنما لأنه وضع كل ما ردده خلال الحملة الانتخابية الرئاسية وما بعدها فى إطار نظرية متكاملة حول النظام الدولى وما يجب أن يكون عليه. المؤكد أنه ألقى ثلجا باردا على الحاضرين فى قاعة الأمم المتحدة فيما يخص مجموعة من الأفكار التى باتت نوعا من الأقداس التى لا يجوز المساس بها وتدور حول فكرة «العولمة»، والعودة بها مرة أخرى إلى فكرة «السيادة» التى تعنى السلطة المطلقة للدولة على أراضيها. صدق أو لا تصدق أن ذلك يأتى من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية التى لديها من السلاح والمال وعناصر القوى الناعمة والخشنة ما يجعلها قادرة تماما على الدفاع عن نفسها، بل ويجعلها قادرة على التدخل فى شؤون الدول الأخرى. وفى بلادنا، ومنطقتنا، فإن كثيرا من الأحبار سكبت على اعتبار «العولمة» ظاهرة أمريكية نقية، وما قيل عن «الأمركة» و«التغريب» كان مترادفات للسيطرة والهيمنة ممن كانت لديهم أدواتها من التكنولوجيا إلى التجارة والصناعة وكل الأدوات التى تجعل من الدنيا «قرية صغيرة» يمكن اختراقها بأقل التكاليف.
الحقيقة لدى ترامب لم تكن كذلك، فالسيادة الأمريكية على الدولة لم تكن تامة فحتى الولايات المتحدة لا تستطيع أن تغير ما استقر عليه العالم من قواعد لدخول وخروج الطائرات المدنية على سبيل المثال إلا حسب القواعد التى تقررها منظمة «آياتا»، ولا حتى التصرف فى البريد، وكذلك فى قواعد المنافسة الخاصة بالصناعة والتجارة التى باتت تجرى وفق قواعد للتنافسية تضعها منظمة التجارة العالمية. وإذا كان الدولار هو العملة الأمريكية الرسمية فإن أكبر الاحتياطيات الموجودة منه هى الأكبر بعد الولايات المتحدة فى الصين بمقدار يصل إلى ١.٨ تريليون دولار، ولم يكن ممكنا لبكين أن تراكمها لولا الفائض الحاد فى الميزان التجارى مع واشنطن. وبشكل عام فإن العولمة أثرت سلبيا على أمريكا من زاويتين: الأولى أنها قسمت الولايات المتحدة إلى فريقين من الولايات: تلك التى دخلت الثورة الصناعية الثالثة وتجرى فى الرابعة أيضا مثل كاليفورنيا ونيويورك ومعظم ولايات الساحل الشرقى على المحيط الأطلنطى، والغربى على المحيط الباسيفيكى وتلك فى عمومها ليبرالية «متعولمة» وغنية ومؤمنة بالاندماج الدولى وديمقراطية الهوى فى الانتخاب والتصويت؛ وتلك التى لا تزال تعيش ظروف الثورة الصناعية الثانية والتى باتت معروفة بالولايات «الصدئة» فى الجنوب ووسط الغرب وهذه باتت تنافس العالم الذى ينتج الحديد والصلب والألومنيوم والأسمدة والموارد الطبيعية التى توجد فى مناجمها، وهذه لا تحب العالم، وباتت جمهورية الهوى.
الزاوية الثانية أن التنوع الأمريكى أفقد أمريكا هويتها الأصلية بعد أن تناوبت عليها الهجرات القادمة من كل أنحاء العالم وخاصة من حدودها الجنوبية التى أصبحت مخترقة إلى الدرجة التى باتت فيها مؤثرة فى التوازن السكانى والسياسى، وشكلت عبئا على الضمان الاجتماعى والتعليم والصحة. وعندما أتت الهجرات من الشرق الأوسط والعالم الإسلامى فإنها من ناحية كانت مستعصية على الاندماج، ومن ناحية أخرى تولدت عنها أشكال من التعصب والإرهاب الذى كانت قمته فى أحداث الحادى عشر من سبتمبر، وما جاء بعد ذلك من عمليات إرهابية فى «سانبراندينو» و«أورلاندو» و«بوسطن». وبغض النظر عن هذه الزاوية أو تلك، فإن إعادة التركيز على «السيادة الأمريكية» أخذ يتوسع بعيدا عن المنظمات الدولية متعددة الأطراف لكى يشمل كافة التحالفات الدولية التى عرفتها أمريكا منذ الحرب العالمية الثانية حتى الآن بما فيها حلف الأطلنطى والعلاقات الخاصة مع اليابان وأستراليا؛ وحتى الاتحاد الأوروبى الذى وضعت أمريكا بذرته الأولى مع مشروع مارشال لإنعاش أوروبا بعد الحرب.
خطاب ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة لم يكن فقط إعلانا عن رغبة أمريكية فى دفن «العولمة»، وإنما أيضا إرساء لمجموعة من السياسات الأمريكية الجديدة التى تقوم على الحماية وربما القومية العنصرية. الملاحظة الأولى على هذا المنهج أنه ربما لا يشكل جديدا فى السياسة الأمريكية حيث نجد له جذورا فى خطاب الوداع لجورج واشنطن الذى قال فيه إن «القاعدة الأولى التى تحدد علاقتنا مع الأمم الأخرى هى أن نوسع من علاقاتنا التجارية، وأن نحد قدر الإمكان من العلاقات السياسية». ولأول مرة منذ وقت طويل فإن رئيسا أمريكيا بات يستعيد «مبدأ مونرو» والذى بمقتضاه أن تبتعد أمريكا عن العالم، ولكنها تريد العالم أيضا أن يبتعد عنها ويترك لها «المجال الغربى» للأمريكيتين الشمالية والجنوبية. العنوان العام هنا هو «العودة إلى السيادة» ولخصها ترامب عندما قال: «إننى أحترم حق كل أمة فى هذا المكان (الأمم المتحدة) أن تتبع عاداتها ومعتقداتها وتقاليدها.
إن الولايات المتحدة لن تقول لك كيف تعيش أو تعمل أو تعبد. ونحن نطلب منك فقط أن تحترم سيادتنا أيضا». هل يمكن لهذه العودة إلى السيادة أن تنجح، أم أنها تعود بنا مرة أخرى إلى تلك الأجواء الدولية التى تلت فشل عصبة الأمم وانهيار النظام الاقتصادى الدولى بعد الكساد الكبير (١٩٢٩ـ ١٩٤٥) نتيجة الحروب التجارية التى كانت بين أسباب الحرب العالمية الثانية؟ وهل يمكن فى ظل أمم منعزلة عن بعضها البعض أن تبقى السيادة والقومية بعيدة عن «العنصرية»؟ أم أن الأكثر ترجيحا هو أن كثيرا من أبواب جهنم سوف تفتح من جديد داخل الولايات المتحدة نفسها بين الولايات المختلفة، أو تستعر جذوة الحرب الأهلية الأمريكية بين البيض والسود والملونين؟ وقبل كل ذلك وبعده فهل يمكن هزيمة «العولمة، فالمدهش أنه وسط ذلك كله فإن حجم التفاعلات الجارية على شبكة الإنترنت فى العالم خلال ٦٠ ثانية تبلغ ٩٧٣ ألف تسجيل دخول على موقع «الفيسبوك»، ٣.٧ مليون عملية بحث عبر «جوجل»، و٢٦٦ ألف ساعة مشاهده على «نتفليكس»، و٣٨ مليون رسالة عبر تطبيق «هواتسآب»، و٨٦٣ ألف دولار مشتريات، و٢٥ ألف صورة، و١٨ مليون رسالة نصية، و٤.٣ مليون مشاهدة فيديو، و٣٧٥ ألف تحميل، و١٧٤ ألف تصفح، و٤٨١ ألف تغريدة، و١٨٧ مليون رسالة إلكترونية. كل ذلك خلال دقيقة، فماذا يكون الحال خلال ساعة أو يوم أو شهر أو سنة، ودون الدخول فى التفاصيل فإن كل ذلك يعكس حالة من التفاعل الإنسانى فى مجال واحد هو الاتصالات، فإذا ما أضيفت له كافة أشكال التفاعل الإنسانى من تجارة وإنتاج وابتكار ومواصلات وهجرة وانتقال سوف نعرف أية ثورة يعيشها الإنسان للعولمة فى هذه المرحلة من التاريخ!!.