حقوق مشروعة وأطماع لا تعترف بالحدود.. بهذه العبارة يمكن إيجاز ما يطفو على سطح البحر المتوسط من صراع نفوذ وتحرك لحماية ما يكمن فى قاع البحر من ثروات نفطية قادرة على تغيير خريطة الطاقة الإقليمية والدولية على حد سواء للعقود المقبلة.
فبعد الاكتشاف المصرى الأبرز ممثلا فى حقل ظهر، تحركت الدولة المصرية مع شركائها فى الحدود البحرية قبرص واليونان لتبرم اتفاقيات قائمة على احترام حقوق تلك الدول، واحترام حصة مصر من تلك الثروات، إلا أن تلك التحركات لم ترق لنظام الدكتاتور التركى رجب طيب أردوغان الذى تقوده أطماع إقليمية ودولية، وتسيطر عليه نزعات التوسع التى لا تصون حق الجوار، ولا تحترم المواثيق الدولية.
وبخلاف البترول والثروات الطبيعية، تعد منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط أحد أبرز المناطق الاستراتيجية فى العالم، لتأمينها التنقل من المحيط الهندى عبر قناة السويس وتربط الهند والصين وكوريا الجنوبية وبقية دول الشرق الأقصى بالقارة الأوروبية والمحيط الأطلسى.
وتمثل منطقة شرق المتوسط أبرز المناطق فى نقل البترول والغاز الطبيعى من الشرق الأوسط إلى دول الاتحاد الأوروبى، وتمثل المنطقة قلب منطقة الشرق الأوسط، لأنها تحقّق ترابط الطرق التجارية المهمّة فى المنطقة، وهو ما يدفع القوى العالمية ودولا إقليمية للسيطرة على المنطقة الاستراتيجية شرق المتوسط.
تفاصيل الصراع على الغاز.. ودفاع مصر عن حقوقها
فى نوفمبر 2014 وبعد 5 أشهر فقط من توليه رئاسة الجمهورية اتخذ الرئيس عبد الفتاح السيسى قرارًا أثار الكثير من الجدل وقتها، وهو توقيع اتفاقية إعادة ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص واليونان، وتكاثرت التساؤلات عن أهمية تلك الاتفاقية وأسبابها، وفيما بعد تبين مدى البعد الاستراتيجى لهذه الاتفاقية التى تهدف إلى حصول مصر على حقوقها الطبيعية والمشروعة فى ثروات المتوسط.
قبل تلك الاتفاقية، كانت إسرائيل تحتفل بافتتاح حقل لفيثان البحرى للغاز الطبيعى شرق البحر المتوسط وكان وقتها أهم اكتشافات الغاز فى العالم، وأكبرها من حيث حجم الاحتياطى.
قبيل اكتشاف حقل لفيثان كانت التقارير الدولية، وعلى رأسها تقرير الولايات المتحدة للمسح الجيولوجى، تشير إلى أن حوض البحر المتوسط يمتلك احتياطى نفط يصل إلى 1.7 مليار برميل من النفط يسهل التنقيب عنه، إضافة إلى 122 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعى الذى يسهل الحصول عليه، وهو ما حمس العديد من الشركات العالمية للبحث عن امتيازات التنقيب عن الغاز فى منطقة شرق البحر المتوسط.
على الضفة الأخرى من العالم، بدأت روسيا مبكرًا البحث عن كيفية سحب بساط السيطرة على الطاقة فى العالم من الولايات المتحدة والتركيز فى عملية استخراج الغاز وتصديره لأوروبا، وأدرك الأمريكيون أن روسيا وإيران من أبرز اللاعبين فى مجال صادرات الغاز فى شرق الكرة الأرضية.
ومنذ سنوات وبالتحديد من بداية القرن الحالى بدأت كل دولة من هذه الدول التحرك أو التفكير للتحرك للحفاظ على نصيبها وحصتها من ذلك الكنز.
لكن انشغال مصر بثورة 2011، ومن بعدها حكم الإخوان، وعدم وجود استقرار سياسى وطرف حاكم قادر على إحكام الأمر أجل التحرك المصرى لحماية حصتها وحدودها البحرية، واستمر الأمر هكذا حتى وقع الرئيس السيسى الاتفاقية المذكورة أعلاه فى 2014، وهى التى سمحت لمصر بالتنقيب بحرية فى مياه المتوسط، وما تبع ذلك من اكتشاف حقل ظهر الذى تخطى فى الاحتياطى حجم احتياطى حقل لفيثان الإسرائيلى.
وتشكل منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط أهمية بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبى، لأنها بمثابة عازل يحمى القارة الأوروبية من التهديدات الإرهابية، ويشكل موقع البحر المتوسط نقطة مهمة فى استراتيجية كل الدول المطلة عليه فهو الرابط بين ثلاث قارات ومحيطين.
وتشهد منطقة شرق المتوسط منذ عدة أشهر توترًا بسبب التحركات التركية للبدء فى أنشطة حفر فى منطقة بحرية تقع غرب قبرص، ما أثار حفيظة مصر ودول الاتحاد الأوروبى من التحركات التركية التى تدفع نحو مزيد من التوتر وعدم الاستقرار فى المنطقة.
وزارة الخارجية حذرت فى بيان لها منذ عدة أسابيع من النوايا التركية للقيام بأنشطة حفر فى منطقة شرق المتوسط، مؤكدة أنها تتابع باهتمام وقلق التطورات الجارية حول ما أُعلن بشأن نوايا تركيا البدء فى أنشطة حفر فى منطقة بحرية تقع غرب جمهورية قبرص.
وحذرت وزارة الخارجية المصرية من انعكاس أية إجراءات أحادية على الأمن والاستقرار فى منطقة شرق المتوسط، مؤكداً ضرورة التزام أى تصرفات لدول المنطقة بقواعد القانون الدولى وأحكامه.
خريطة الحقول المصرية فى المياه العميقة بالبحر المتوسط والشركات العاملة بها، وهى كالتالى:
شركة بريتش بترليوم تعمل فى 3 مناطق امتياز، الأولى فى منطقة شمال المكس وتقع غرب حقل ظهر، والثانية بمنطقة شمال التنين، والثالثة بمنطقة الطابية جنوب حقل ظهر.
تعمل شركة أديسون الإيطالية فى ثلاث مناطق، أولها بمنطقة شمال ثقة فى الجنوب الشرقى من حقل ظهر، ورأس حابى يقع جنوب حقل ظهر، فيما تقع المنطقة الثالثة للشركة الإيطالية فى شرق حقل ظهر وهى منطقة شمال بور فؤاد.
شركة إينى الإيطالية مكتشفة حقل ظهر تعمل هى الأخرى فى منطقتى امتياز، بالإضافة إلى منطقة امتياز شروق التى تضم حقل ظهر، وهما منطقتا شمال ليل غرب حقل ظهر، وكروان أيضا إلى غرب حقل ظهر.
ويتبقى منطقة وحيدة فى المياه العميقة للبحر المتوسط تعمل بها شركة دانا غاز، وهى منطقة شمال العريش وتقع فى جنوب شرق حقل ظهر.
وكانت شركة «ديليك» الإسرائيلية للحفر، قد أعلنت عن توقيع عقد لمدة 10 سنوات، بقيمة 15 مليار دولار، لتصدير الغاز الطبيعى لشركة دولفينوس الخاصة المصرية.
وتقدر دراسة صادرة عن هيئة المساحة الجيولوجية الأمريكية فى عام 2010، أن حجم احتياطى الغاز فى حوض شرق البحر المتوسط يبلغ نحو 345 تريليون قدم مكعب من الغاز، ويحتوى هذا الحوض أيضًا على كميات ضخمة من الاحتياطيات النفطية تبلغ 3,4 مليار برميل من النفط، إلى جانب كميات كبيرة أيضًا من سوائل الغازات.
وتصل احتياطيات مصر من الغاز الطبيعى بمنطقة البحر المتوسط ودلتا النيل تصل إلى نحو 122 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعى.
وفرضت الأهمية الاقتصادية للبحر المتوسط أن يكون هدفًا للسيطرة عليه عسكريًا، إضافة إلى كونه المعبر الأسرع والأسهل لحاملات النفط ونقل المسافرين وأهم ممر تجارى فى العالم انطلاقا من شرق آسيا فى المحيط الهادى، عابرا المحيط الهندى عند ميناء سنغافورة ليجتاز البحر الأحمر، باب المندب، قناة السويس، وعبر مضيق جبل طارق نحو أوروبا والأمريكتين.
شكل موقع البحر المتوسط نقطة مهمة فى استراتيجية كل الدول المطلة عليه فهو الرابط بين ثلاث قارات ومحيطين، وعلى ضفافه دول عظمى لها تاريخ ولعوامل أخرى كان البحر المتوسط ساحة للمعارك منذ فجر التاريخ وحتى الآن، ولا يمكن أن يغفل أحد إلى جانب الوجود الأمريكى أيضا الوجود الروسى، فروسيا ذات حقوق بالبحر المتوسط كون البحر الأسود امتدادا للمتوسط، والولايات المتحدة الأمريكية تلعب الدور الأكبر فى المياه المتوسطية ويشكل الأسطول السادس الأمريكى التواجد الأكبر لها فى حوض المتوسط، ومهمته فرض السيطرة الأمريكية عليه لتأمين احتياجات النفط الخليجى للولايات المتحدة ولغرب أوروبا حليفتها، إضافة إلى ضمان استقرار آمن فى الدول المتوسطية، خاصة حلفاء الولايات مثل إيطاليا واليونان.
أما إسرائيل فلجأت لكل الطرق للتنقيب فى البحر المتوسط دون تقيد بحدود أو ترسيم، وتشير آراء الخبراء أن اكتشاف هذه الحقول فى حوض البحر المتوسط من شأنه أن يخفف على إسرائيل استيراد الغاز الطبيعى من الخارج واستيراد الفحم الحجرى اللذين يوفران الطاقة للمستهلكين والشركات.
ويربط آخرون بين اكتشافات الغاز الأخيرة فى البحر المتوسط وعدم رغبة إسرائيل فى ترسيم حدودها البحرية مع لبنان واليونان وقبرص، حيث يقع أحد حقولها المهمة فى مياه فلسطين المحتلة وجزء آخر منه بالمياه الإقليمية اليونانية.
أما لبنان فقد كشفت تقارير عن وجود تفاهمات بين إسرائيل ولبنان وبإشراف الولايات المتحدة الأمريكية على ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، تشمل خريطة تتضمن صيغة حل وسط لاقتسام مخزون الغاز الطبيعى فى شرقى البحر المتوسط.
أما سوريا فهى المحطة التى يطمع فيها الجميع، حيث ترفض روسيا أن تتخلى عن وجودها فى سوريا رغبة فى الاعتماد عليها مستقبلا فى مد خطوط الغاز عبرها، وكذلك الضغط من خلالها على إسرائيل والمطالبة بترسيم الحدود بينهما للتنقيب عن الغاز، وهو نفس السبب الذى يجعل إيران تعمل بكل قوتها ليكون لها نظام موالٍ فى سوريا لتقوم بتصدير الغاز من خلالها.
أما تركيا صاحبة الجدل الأكبر فى الملف، فهى تسعى لتقديم نفسها للعالم على أنها الخيار الأفضل لنقل الغاز من الشرق إلى الغرب بسبب موقعها على البحر المتوسط، ولأن تركيا تستورد 90% من احتياجاتها من الغاز تقريبا من روسيا، فقد بدأت، مؤخرا، البحث عن بديل لذلك، من خلال تقوية علاقتها بقطر وبإسرائيل، وتسعى حاليا لتنفيذ مشروعها المسمى «الممر الجنوبى» والذى تسعى من خلاله لتأمين احيتاجاتها الكاملة من الغاز مستقبلا بل ولعب دور المصدر إلى أوروبا، وهو ما جعل تركيا تزاحم قبرص فى مياهها الإقليمية.