في يناير 2017، جرى لقاء سري في بناية مهجورة بالعاصمة الأمريكية واشنطن، كان طرفاها صاحب البناية ديفيد كرامر، مساعد السيناتور الجمهوري الراحل جون ماكين، والصحفي بموقع “بازفيد” كين بنسنجر.
وبحسب صحيفة “الجارديان” البريطانية، أحضر كرامر معه أثناء المقابلة ملفًا يحوي وثائق سرية عن الرئيس الأمريكي المنتخب آنذاك دونالد ترامب، والذي كان مقررًا أن يؤدي اليمين الدستورية كرئيس للولايات المتحدة بعد أيام من اللقاء، وكانت الوثائق تدور بالتحديد حول علاقة ترامب الغامضة بروسيا.
وأضافت الصحيفة أن كرامر وضع الملف على طاولة واستأذن ضيفه لإجراء مكالمة هاتفية ثم تركه وحده مع الملف، فما كان من بنسنجر إلا أن أخرج هاتفه المزود بكاميرا، وصوّر وثائق الملف كلها، قبل أن يعود كرامر إليه بعد نصف ساعة، وفي هذا اللقاء بالتحديد بدأت أولى خطوات الحرب الشعواء التي لم تزل مستعرة بين ترامب والصحافة الأمريكية والعالمية التي تداولت أمر علاقته الملتبسة بروسيا، والتي فتح الكونجرس الأمريكي تحقيقًا حولها بشأن تواطؤ روسيا مع حملة ترامب الانتخابية لإنجاح الأخير وإدخاله إلى البيت الأبيض.
وعمل كرامر مساعدًا لوزير الخارجية في إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن، واشتهر بموقفه المتشكك في صلاحية ترامب لتولي رئاسة الولايات المتحدة، وقد أطلع منصات صحفية أخرى ومسئولين في إدارة أوباما على الوثائق التي كانت بحوزته.
وبالرغم من أن الوثائق المذكورة لم تطح بترامب من منصبه كما كان يأمل معارضوه، فإنها سلطت الضوء على أحد أكثر القضايا غموضًا في القرن الحادي والعشرين، وهي السر وراء سياسة ترامب المهادنة تجاه روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين، ضابط المخابرات والرئيس السابق لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي.
أما مصدر الوثائق نفسها فكان ضابط المخابرات البريطاني السابق كريستوفر ستيل، الذي قضى جزءًا كبيرًا من حياته المهنية في تتبع أنشطة المخابرات الروسية، وانتهت وثائقه إلى أن الكرملين خطط لإدخال ترامب إلى البيت الأبيض قبل انتخابه بخمس سنوات على الأقل، وفي سبيل ذلك سعت المخابرات الروسية إلى معرفة أسرار عن ترامب لابتزازه بها فيما بعد.
وأوضحت الصحيفة أن ستيل يعرف الروس جيدًا، وقد عمل في السفارة البريطانية لدى روسيا خلال العهد السوفيتي، ثم ترك العمل بالمخابرات في 2009 ليؤسس شركة معلومات خاصة، وفي ربيع عام 2016 دخلت شركة الأبحاث الأمريكية “فيوجن جي بي إس” على خط قضية علاقة ترامب بروسيا وبدأت تتحرى حولها.
وفي كتاب حمل عنوان “جريمة تحدث” جمع الكاتبان جلين سيمبسون وبيتر فريتش، مؤسسا شركة “فيوجن جي بي إس” جميع المعلومات والوثائق المتاحة حول علاقة ترامب بروسيا، والتي أنكرها الرئيس الأمريكي بالطبع، واصفًا ستيل بأنه جاسوس فاشل، وقد استعان سيمبسون وفريتش بمعلومات ستيل أثناء إعداد الكتاب، وأكد ستيل أنها تستند إلى روايات أطراف موثوقة، بينها مسئول بوزارة الخارجية الروسية وضابط سابق بالمخابرات الروسية واثنين من العاملين بفندق ريتز كارلتون في موسكو.
وبحسب الكتاب بدأت قصة علاقة ترامب بروسيا عام 2013، عندما سجل جهاز الأمن الفيدرالي الروسي فيلمًا سريًا لترامب بينما كان يقيم علاقات حميمة مع فتيات ليل خلال زيارته إلى موسكو عام 2013، وبالتحديد في فندق ريتز كارلتون.
وبمجرد أن علم ستيل بأمر علاقات ترامب الحميمة في موسكو، أبلغ مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي “إف بي آي” ورئاسة الحكومة البريطانية، وجاء في كتاب “جريمة تحدث” أن ستيل علم من المدير السابق للمخابرات البريطانية السير ريتشارد ديرلاف أن حكومة رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تيريزا ماي كانت تشك في وجود علاقة خاصة ما بين ترامب وروسيا، لكنها قررت عدم تداول الأمر علانية.
وانتهت لجنة التحقيق الخاصة حول التدخل الروسية في الانتخابات الأمريكية برئاسة المحقق روبرت مولر إلى أن روسيا قد تدخلت بالفعل في الانتخابات، من خلال تسريب رسائل خاصة من البريد الغلكتروني لمنافسة ترامب الديمقراطية هيلاري كلينتون، لكن اللجنة لم تعثر على دليل قوي يثبت وجود تواطؤ بين روسيا وحملة ترامب الانتخابية، وإن اتهمت الرئيس الأمريكي بإعاقة العدالة وعمل لجنة التحقيق.
لكن قبل أن ينتهي تحقيق لجنة مولر، قدم الأخير في يوليو الماضي دليلًا للكونجرس حول وجود شبهة تواطؤ بين ترامب وروسيا، وفي اليوم التالي اجرى ترامب اتصالًا هاتفيًا بنظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وطلب منه فتح تحقيق حول علاقة منافسه الديمقراطي الأوفر حظًا في الانتخابات الرئاسية المقبلة جو بايدن وابنه هنتر بشركة غاز أوكرانية، وهي المكالمة التي تسربت تفاصيلها الشهر الماضي، لتثير حالة من الغضب الشديد في أوساط الديمقراطيين، الذين قرر نوابهم في مجلس النواب بدء إجراءات مساءلة برلمانية لترامب قد تفضي إلى عزله، بتهمة استغلال منصبه في الإضرار بمنافس محتمل.
وختمت الصحيفة بأن فضيحة مكالمة ترامب مع الرئيس الأوكراني وثيقة الصلة بمسألة علاقته مع روسيا، ويمكن اعتبارها الجزء الثاني من القصة، ولا يزال العالم كله ينتظر ما ستسفر عنه إجراءات مساءلة ترامب في الكونجرس.