في ظهيرة ليلة 23 يوليو 1952، سألت تحية كاظم زوجها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لأول مرة منذ زواجهما إلى أين سيتجه، ليبادرها بضحكة وهو يحكي عن رفيقه محمد أنور السادات آنذاك خلال ارتدائه بذته العسكرية في حالة تأهب للخروج إلى مصير لا يعلم إلى ما سيؤول إليه.
استشعرت تحية بالخوف حين أجاب عن سؤالها بأنه خارج من أجل التصحيح، في تلميح بأنه يعني تصحيح أوراق امتحانات طلبة كلية أركان الحرب، وكان هذا الرد هو الرد الثابت حين كانت تسأله زوجته عن غموض خروجه المستمر للتحضير لـ ثورة يوليو التي كانت في طي الكتمان آنذاك، وذلك بحسب رواية تحية كاظم في مذكراتها ذكريات معه.
وتروي تحية أنه عندما أشارت عقارب الساعة إلى التاسعة مساءً، جاء ضابط قال إنه من القيادة العامة في كوبري القبة، ليبلغها بأن البيك باشا جمال عبد الناصر أرسله إليها ليخبرها بأنه بخير.
وبعد فترة وجيزة، حضر ضيف أسمر البشرة قبل رجوع جمال عبد الناصر وجلس في الصالون لـ ينتظره، وفور حضور جمال طلب من زوجته تحضير الغداء له ولضيفه الغامض الذى جاء عدة مرات إلى بيت الرئيس الراحل دون أن يترك ورقة تكشف عن هويته واسمه، ليتضح أنه محمد أنور السادات.
وقالت تحية في مذكراتها: “كان من عادته أن يغسل وجهه قبل النوم فقلت فى نفسى: إنه لم ينم ولا ساعة منذ يومين وها هو ذا الليلة سينام مبكرا، وجدته بعد أن غسل وجهه فتح الدولاب وأخرج البدلة العسكرية ووجدته يرتديها، فقمت وجلست وقلت له بالحرف: إنت رايح فين بالبدلة الرسمية دلوقت؟ وكانت أول مرة أسأله انت رايح فين منذ زواجنا، فرد علىّ بكل هدوء وصدر رحب قائلا: أنا لم أكمل تصحيح أوراق كلية أركان حرب ويجب أن أنتهى من تصحيحها، وغدا تكون كلها كاملة التصحيح، ومنذ يومين وأنا أشتغل هنا، والضابط الذى يجلس معى ونشتغل سويّا قال لى نسهر الليلة فى بيته نكمل تصحيح الأوراق، وسأذهب إلى الكلية وسوف لا أرجع البيت الليلة، وانتظروني غدا وقت الغداء، وقبل خروجه من الحجرة قال لى: لا تخرجى.. الصالة الآن يوجد فيها ضابط ينتظرنى.. وأغلق الحجرة بعد خروجه منها”.
واستكملت كاظم روايتها ليلة الثورة قائلة “بعد أن سمعت باب المسكن يقفل قمت وخرجت من الحجرة.. وجدت أخويه الاثنين جالسين فى حجرة المكتب فسألتهما: هل اعتقل جمال؟ فرد شقيقه ليثى قائلا: لا إنه لم يعتقل اطمئنى، فقلت: إنه خرج وارتدى ملابسه العسكرية وينتظره ضابط كما حدث يوم أن اعتقله إبراهيم عبد الهادى”.
وفي الساعة الثانية عشرة مساءً، سمعت تحية صوت طلقات رصاص كثيفة شعرت بأنها صادرة من ناحية قصر القبة، “فقمت مسرعة وخرجت إلى الصالة ووجدت أخويه فقلت: هذا الضرب.. الطلقات فى قصر الملك ولا بد أن يكون جمال من الذين يطلقون الرصاص ويهاجمون القصر.. وبكيت”.
استمرت الطلقات الكثيفة حوالى عشر دقائق ثم سكتت لدقائق وعادت مرة أخرى، واستمرت تحية فى البكاء، فقال أخوها لها إن صوت الطلقات كما هو معروف يصدر من الناحية المقابلة لها وليس من المكان الذى أطلقت منه، إنها ليست في القصر، موصيا إياها بعدم انشغال بالها على زوجها، لينظر بعد تلك الكلمات إلى المصحف وهم بأخذه فى يده لترد عليه تحية: “لا تلمس المصحف، سوف لا أصدقك وأنت تحلف يمينا دون أن تعلم شيئا”، ليرجع عن قراره ولم يلمس المصحف.
وروت تحية تفاصيل الساعات الأولى من الثورة قائلة: “كنا نستمع للراديو وقراءة البيان طول النهار، ونسمع صوت الطائرات وهى تحلق فى سماء القاهرة وتمر فوق كوبرى القبة باستمرار منذ الصباح، وفى الساعة العاشرة مساء من اليوم التالي حضر جمال، وهنأ زوجته تحية من كل قلبه قائلًا: سأبقى ساعتين فقط وأرجع إلى القيادة”، ليقوم بعد ذلك بحلق ذقنه وأخذ حماما واستبدل ملابسه وجلس مع أسرته فى حجرة المكتب، لتخبره تحية عن أخيها وحضوره فى الصباح وسؤاله عنه وقلقه عليه.
قالت تحية لجمال: “سمعت طيلة النهار صوت الطائرات تمر من فوق البيت، وحكيت له عن سهرى طول الليل حتى الصباح، وقلقي عليه عند سماعها صوت طلقات الرصاص”.
وحكى الرئيس الراحل لزوجته تحية تفاصيل ليلة 23 يوليو قائلًا: “لقد اقتحمنا القيادة العامة بفرقة من الجيش ومعى عبد الحكيم عامر، ولم يصب إلا اثنان فقط من الجنود.. واحد من حرس القيادة وواحد من الفرقة التى معنا”.
وتابع روايته قائلا: “استسلم كل الموجودين فى القيادة وكانوا مجتمعين، وأخذتهم واحدا واحدا وأدخلتهم فى مبنى المدرسة الثانوية العسكرية ــ وكان فى منشية البكرى فى ذلك الوقت ــ ثم قال: وسلمتهم للسجّان حمدى عاشور.. وضحك”.
وتابع: “بعد أن تم كل شىء خرجت لأقفل الشارع وأرجع العربات المارة قبل مرور الجيش، وكنت واقفا على ناصية الشارع وركنت العربة الأوستن بالقرب منى، وأضاف وهو يضحك: لِمَ تقلقين وأنا قريب منك على ناصية الشارع، والعربة الأوستن بالقرب مني في ميدان المستشفى العسكرى؟ فقلت: إنك كنت قريبا ولكن بعيدا جدّا.. وكان يضحك”.
وتحدث جمال لتحية عن الملك فاروق قائلًا: “لقد أرسل الملك مبعوثا من قبله وأملينا عليه تغييرات وشروطا، وكل ما طلبناه منه وافق عليه فورا، وحدثته عن حضور ثروت عكاشة فى الصباح وتهنئته لى وقوله: اسمعى البيان فى الساعة السابعة.. وسمعته. فقال جمال: إنه أنور السادات، وقال: لقد كان هو وزوجته فى السينما، وعندما رجع لبيته وقرأ الورقة المكتوب فيها أن يحضر ارتدى ملابسه العسكرية وخرج مسرعا، وفي طريقه للقيادة عند مدخل مصر الجديدة منعه الضابط المكلف بالوقوف هناك لعدم معرفته كلمة السر، وبعد إلحاح سمح له الضابط بالمرور، وعند مدخل القيادة منع أيضا من الدخول فلف ودار حول القيادة دون جدوى، وأخيرا نادى، وصاح فسمعه عبدالحكيم وعلمت بحضوره ودخل القيادة عند الفجر، وفى الصباح أعطيته البيان ليقرأه فى الإذاعة”.
قالت تحية في مذكراتها إنها رأت أخويه يقفزان من الفرح ويقبلان بعضهما وقالا: “افرحي افرحي.. فقلت: وأين جمال؟.. والطلقات التى سمعناها؟ وأخذت أبكى وقلت: الآن أنا فهمت.. إنه انقلاب عسكرى”.