ما أكثر كليات الإعلام فى مصر، وما أقل المواهب! وحين اختفى كشاف المواهب لظروف مختلفة، صارت الموهبة فى ندرة الماس، وقد كانت الأعداد الضخمة من خريجى هذه الكليات والمعاهد تثير السؤال: أين يذهبون؟ وظهرت فى الأفق- منذ سنوات قليلة- مشاريع تجارية توظف أسماء مرموقة فى سماء الإعلام تجذب الراغبين فى الالتحاق بالمشروع، والهدف أن يصير إعلاميًا، رغم أنه طبيب أو محاسب، لأن مهنة المذيع تزايد الإقبال عليها وصارت تغرى بالشهرة! وليس من المعقول أن يصير طبيب بعد ٧ محاضرات أو عشرة إعلاميًّا إلا إذا كان ثريًّا، وقرر أن يشترى الهواء من القنوات! وشراء الهواء من القنوات صار موضة، وهناك أسماء تمارس المهنة بفلوسها ولم يعد الأمر سرًّا، بل أصبح حقيقة! وزمان لم يكن يظهر على شاشة أو يجلس خلف ميكروفون إلا موهوب أو موهوبة، كانت الموهبة هى الحاكمة وكان الظهور بطلوع الروح، لا مجاملات ولا كوسة ولا شراء هواء ولا ثقيل ظل يخدم أسياده! وفى غفلة من الزمن حين سادت الضحالة وأصبح نبع المعرفة هو السيد جوجل وليس الكتاب، بدأت القنوات تستعين بالنجوم كمقدمى برامج وانتشرت الظاهرة ولا تزال تحكم الشاشات. فالنجم له بريقه حتى لو لم يكن مؤهلًا لمهنة المذيع! واشتهر بعض النجوم كمقدمى برامج ويتقاضون مبالغ فلكية، وصار عدد من المذيعين والمذيعات فوق «الدكة» كنجوم الكرة الاحتياطى! ولا موهبة تُذكر للنجم فى السؤال أو فن الحوار إلا اسمه وبريقه! فالذى رشحه للشاشة اسمه فى دنيا المشاهير.
■ وصار من الممكن أن تقدم راقصة ومطرب برنامجًا تليفزيونيًا، فالمطلوب هو «حالة استظراف أو خفة دم» خلال مساحة الوقت المقررة لهذا النوع من البرامج التى تتهافت عليها الإعلانات بكثافة ملحوظة، وانكمش الإعلامى الدارس حتى ولو كان نصف موهوب، لأن بريق النجم تزهو به الشاشة. ليس مهمًا ما يقوله، المهم ظهوره وكام سؤال وبعض الإفيهات وضحك ع الدقون. عشنا زمن المغنية الفلانية تستضيف النجوم والأدباء فى «صالونها»! والحق أقول لكم، لقد هانت الصالونات ووداعًا لصالون نجيب محفوظ أو توفيق الحكيم. فهذا زمن الفن والفكر والهوية الثابتة الراسخة، وجاء زمن «المشاهدات» بالملايين لواحد بيحلق فى صالون لأنه «لايف»، يبدو أن الناس اشتاقت للواقع المعيش حقًا وليس الواقع الملزق والمفبرك والمرسوم!.
■ وليس كل من حصل على مجموع فلكى كبير فى الثانوية العامة يصلح لمهنة الإعلام. إنها المهنة التى تعتمد على الشخصية والثقافة والإلمام بالحياة والذكاء الاجتماعى والقدرة على التعبير، إنها مهنة الفضول المبكر للمعرفة والشغف بالكلمة والوعى قبل السعى والبحث الدؤوب عن معلومة والإفادة العامة دون الدق على الرؤوس. وليس بالضرورة أن يكون الإعلامى كاتبًا أو مذيعًا خريجًا لكلية إعلام. فأحمد بهاء الدين خريج حقوق، وعلى أمين خريج هندسة، وهيكل من تعليم غير جامعى، وكمال الملاخ خريج فنون جميلة، وليلى رستم ومنى الشاذلى من خريجات الجامعة الأمريكية، ومصطفى محمود ويوسف إدريس خريجى طب، وفى تجربتى كرئيس تحرير صباح الخير، كان خريجو العلوم ودارسو علم النفس فى كلية الآداب قد أثبتوا أنفسهم، وأنا شخصيًا دخلت التليفزيون معدًا لحوالى ٩ سنوات من باب الصحافة، ثم صرت محاورًا «لأن أفضل من يقدم برنامجًا هو من أعده»، ولهذا قدمت بكل تواضع الصحافة المتلفزة فى نجمك المفضل مع ليلى رستم، وعزيزى المشاهد مع أمانى ناشد، والغرفة المضيئة مع لبنى عبدالعزيز، والنادى الدولى مع سمير صبرى، وحين صرت محاورًا كان برنامج «عصر من الفن» عن أم كلثوم أول برنامج أقدمه لشاشة مصر، حيث حشدت ٢٣ شخصية للكلام عن أم كلثوم. وكانت الحلقة التالية مع أبوغزالة، وزير دفاع مصر. وجاء برنامجى «حديث المدينة» ليحتل ٢٠ عامًا متواصلة من رصد مصر الكيان والمجتمع والشارع. وفى حديث المدينة رصدت نيويورك بعد حادث ١١ سبتمبر بأسابيع وصعدت للدور ٣٨ فى مبنى الأمم المتحدة لأقابل أمينها بطرس غالى، وألتقى بزويل عقب جائزة نوبل فى السويد بساعات، وأقابل عازر مهندس الكبارى فى ألمانيا، وهو مصرى مرموق. لقد مزجت الصحافة والتليفزيون فى ضفيرة واحدة أقرب ما تكون إلى تليفزيون الواقع، لأن عدساتى لم تختنق فى الغرف المكيفة، بل انتشرت فى الشارع!.
■ أمس الأول عشت تجربة جديدة فريدة فى كلية الإعلام بجامعة القاهرة، سبقها اتصال من الأستاذ الدكتور أيمن منصور، أستاذ ورئيس قسم الإذاعة والتليفزيون، وطلب بأدب بالغ مساهمتى فى اختبارات القبول للطلبة والطالبات بكلية الإعلام، إنها بداية صح، لأن الإعلامى «مظهر وحضور ومعلومات ودرجة عالية من الوعى». هذه التجربة تنفذ للمرة الأولى ولكن القنوات كانت سبَّاقة فى اختبار من تقدم لها. وقد اشتركت مع زميلَىَّ عمر بطيشة وإيناس جوهر فى واحدة من هذه التجارب فى قناة النهار. فإذا كانت الكليات العسكرية تطلب فيمن يلتحق بها «مقابلة خاصة»، فالإعلامى الذى يتعامل مع أطياف المجتمع له «مواصفات خاصة»، هى جزء من قدرته على «التأثير»، وما الإعلام إلا.. تأثير.
■ قد أحكى لكم تجربتى فى الاختبارات وربما أحجبها. يتوقف الأمر على الحصيلة وحجم المواهب وانطباعى، لكن كليات الإعلام بدأت بالاختبارات الشخصية بداية سليمة لمستقبل أيام مصر الطموحة.