تلقيت من الأستاذ محمود الطنب صورة من صفحة فى كتاب عليها إهداء نادر، أما الإهداء فكان نجيب محفوظ قد كتبه فى صدر نسخة من رواية الكرنك، ثم أهداها إلى توفيق الحكيم!.
كتب أديب نوبل بخط يده المنمنم الجميل إهداءً من سبع كلمات فقال: الأستاذ الإمام توفيق الحكيم.. تحية الجدول للمحيط!
وقد علق الأستاذ الطنب على الإهداء فقال إن هذه كانت أخلاق العظماء، قبل أن نعيش زمن فلان وفلانة.. أما فلان فهو ممثل صاحب مسلسل تافه، وأما فلانة فهى مذيعة صاحبة برنامج أتفه!.
والجدول.. لمن لا يعرف.. هو القناة الصغيرة التى ينساب الماء منها إلى زرع الحقول.. أما المحيط فهو ما نعرف طولاً وعرضاً.. ثم لنا أن نتخيل كيف تواضع صاحب نوبل وهو يهدى نسخة من روايته، إلى حد أنه رأى نفسه جدولاً صغيراً، عند المقارنة بكاتب فى حجم محيط مثل توفيق الحكيم!.
ليس هذا وفقط، ولكنه رأى الحكيم أستاذاً وإماماً.. وفى زمن سابق عليهما كان الإمام محمد عبده يحمل هذا اللقب دون سواه، وكان يكفى أن يقال الأستاذ الإمام، ليعرف السامع على الفور أن المقصود هو محمد عبده، دون باقى خلق الله!.
وفى أسفل الصفحة التى حملت الإهداء، كانت هناك إشارة إلى أن الرواية صادرة عن مكتبة مصر التى تقع فى هذا العنوان: ٣ شارع كامل صدقى بالفجالة!.
وفى زمن الإهداء كان القارئ يذهب إلى شارع كامل صدقى فى الفجالة، المواجه لمحطة مصر فى رمسيس، فيجد مكتبة مصر فى انتظاره ترحب به وتدعوه إلى جميع مؤلفات محفوظ، وقد كنت تستطيع تمييزها من بعيد، بأغلفتها الموحية التى رسمها الفنان صاحب الريشة المبدعة جمال قطب!.
وكنت تغادر مكتبة مصر فى الشارع الشهير هناك، فتجد مكتبة غريب فى انتظارك هى الأخرى، تدعوك وترحب بك وتعرض دواوين فاروق جويدة، ومنها إلى دار المعارف حيث مؤلفات طه حسين، ثم إلى دار نهضة مصر، حيث الكتب المتنوعة، وهكذا.. وهكذا.. وكانت المكتبات ودور النشر تصطف على جانبى الشارع، كأنها تحرس المكان، وكانت رائحة الكتاب تملأ الأرجاء، وكانت الثقافة بمعناها الشامل هى العنوان من أول الشارع إلى آخره!.
وعندما انتهى نجيب محفوظ من ثلاثيته الشهيرة حملها إلى عبدالحميد جودة السحار فى مكتبة مصر، طالباً نشرها، فكان رأى السحار يرحمه الله، أنه من الصعب وضع الثلاثية فى كتاب واحد أمام القارئ، وكان الحل هو تقسيمها إلى ثلاثة أجزاء، فصدرت الأجزاء الثلاثة منفصلة: السكرية.. بين القصرين.. قصر الشوق!.
تحية إلى الجدول والمحيط معاً.. فكلاهما كان عنواناً صادقاً لهذا البلد الذى يملك من الثقافة ما لا يملكه بلد آخر.. ولكن أبناءه لا ينتبهون!.