السينما تذهب للناس وهكذا قرر مهرجان (المنارات) أن يستعيد سينما الشاطئ مجددا فى ربوع تونس، يفتتح المهرجان المتخصص فى سينما البحر المتوسط دورته الثانية، الثامنة مساء اليوم، وسط لهيب الشمس الحارقة التى لم تفلت منها أى بلد، الكل، شرق وغرب، يتصبب عرقا.
المهرجان تديره المنتجة دُرة بو شوشة والتى تم تكريمها فى مهرجان (الجونة) بجائزة النجمة الذهبية فى الدورة الأخيرة، كما كرمها أيضا مهرجان (الأقصر) فى شهر مارس الماضى، وهى من أنشط السينمائيات العربيات أراها دائما فى أكبر المهرجانات تدعم مشروعا سينمائيا تونسيا يحمل اسم بلدها للعالم، ويضع تونس على الخريطة السينمائية، طبعا لا يمكن اختصار الإبداع التونسى وتحديدا الإنتاج فى شخص واحد مهما بلغ عطاؤه، ولكن على الأقل هى حاليا بمثابة الأنشط بين الجميع.
من أجل سينما أفضل هذا هو ما أشعر بأن الدولة التونسية تلعبه وتنتهجه أيضا، تساند السينما ماديا وأدبيا، وهو ما يفرض علينا السؤال المباشر: أين نحن من كل ذلك؟ فى اللحظة التى أعلن فيها عن زيادة دعم السينما المصرية، قبل ثلاثة أعوام، هى نفسها اللحظة التى توقف أساسا فيها الدعم، الأدهى أننا اكتشفنا أن ما أشارت إليه وقتها كل الصحف فى صدر صفحتها الأولى عن زيادة الدعم إلى 50 مليون جنيه بقرار من رئيس الوزراء الأسبق، حيث كانت 20 مليونا فقط ، هذا الخبر الذى كان عنوانا لكل برامج (التوك شو) اكتشفنا أنه ليس له أى ظل من الحقيقة فلا يوجد مستند رسمى يؤكده، وحتى الدعم السابق لم يتم صرفه حتى الآن لمستحقيه، لأن هناك ظلالا من الاتهامات لاحقت مسابقة الدعم الأخيرة، وهكذا توقفت الدولة عن ضخ أموال جديدة، ورغم ذلك لاتزال السينما المصرية وهى تتلقى كل تلك الضربات العنيفة تحاول أن تتنفس.
الفلسفة التى تحرك النظام التونسى تؤمن بأن الفن والثقافة هما خط الدفاع الأول فى مواجهة قوى الظلام.
تونس بلد صغير بمساحته لكنه كبير وعميق بشعبه العاشق للفن والمؤمن فى نفس الوقت بالحرية، هذا الشعب المبدع يواجه بين الحين والآخر ضربات عشوائية ممن يكرهون الحياة ويعشقون الدماء ويرفعون سيوف الدمار، هؤلاء الدواعش الذين يؤرقهم دائما أن يجدوا مهرجانا فنيا تتسع دائرته لتضم العديد من دول العالم ولهذا يسارعون بمحاولة إطفاء النور.
وهكذا، وبلا حتى ابتكار ومع كل تظاهرة فنية، يحاول انتحارى تفجير قنبلة لعلها تردع من يرفعون شعار الله جميل يحب الجمال، ولأنهم يدركون أن فى الفن مقتلهم، لأنه يبنى أساسا وجدان الإنسان القادر على مواجهتهم، فهو عدوهم الأول .
فى مهرجان قرطاج الذى أقيم فى نوفمبر الماضى فعلوها فى المسرح البلدى وهو يقع على بعد بضعة أمتار قليلة من مقر إقامة أغلب فعاليات المهرجان فى شارع الحبيب بورقيبة، وأطلقت المنتحرة على نفسها لقب (الذئبة المنفردة)، حيث لا تواصل مباشر مع التنظيم الداعشى، إلا أن المهرجان لم يتوقف.
قرطاج هو المهرجان الأقدم عربيا وإفريقيا، بدأ عام 66 بينما مهرجان القاهرة السينمائى افتتح دورته الأولى فى 76 أى أنهم سبقونا بعشرة أعوام، تفجير الانتحارية لنفسها لم يؤت ثماره فى قرطاج، كذلك باءت بالفشل مجددا فى مهرجان (المنارات) المحاولات الثانية رغم أنها خلفت ضحايا.
أتذكر ما حدث أن رئيس مهرجان قرطاج نجيب عياد قرر أن يقدم فى نفس الموقع الذى شهد تفجير الانتحارية حفلا غنائيا ليصبح رادعا لهم، هذه المرة ومع أحدث مهرجان سينمائى فى تونس (المنارات) لسينما البحر المتوسط كانت هناك ضحايا، إلا أن الغرض الأساسى للإرهابيين لم يتحقق، المقصود بث رسالة ذعر للجميع ليمتنعوا عن حضور المهرجان، لنكتشف أن المهرجان لم يعتذر عنه أى ضيف، الكل قال عمليا لن نخشاهم وكانت نتيجة الاعتذارات (صفرا).
أرى دائما أن هذه هى الفريضة التى ينبغى أن يلعبها المثقف فى بلادنا العربية، خاصة أنه واكب التفجيرات الأخيرة تدهور فى صحة الرئيس التونسى السبسى قبل أن يبدأ فى استرداد عافيته، الرئيس السبسى هو عنوان عربى بارز لقائد مؤمن بالحرية وبمساواة المرأة بالرجل ويالعدالة بين الجنسين، طبعا هذا الفكر الذى يوصف أحيانا بالجرىء يجعلهم يتأبطون شرا، لأنه يقهرهم بالفكرة قبل الرصاصة.
السبسى يضع العمق الاستراتيجى الثقافى فى المواجهة ليصبح هو البنية التحتية للمجتمع التونسى، فهو ليبرالى الفكر، العلمانية مذهبه، التى تؤمن بأن الوطن يتسع للجميع من كل الأديان والأعراق ودور الدولة يكمن فى حماية الإنسان لممارسة قناعته الدينية، فلا تسمح باعتداء على مسجد أو كنيسة أو معبد، وتحمى أيضا من لا يؤمن بدين، يواصل السبسى ما بدأه معلمه وأستاذه الحبيب بورقيبة بانى تونس الحديثة، ولبورقيبة مساحة استثنائية فى قلب التوانسة، السبسى أيضا بمواقفه صارت له مساحة دافئة، وهو يستعد لتسليم السلطة فى نوفمبر القادم، والكل يدعو له بتمام الشفاء.
المهرجان يتحرك برشاقة، رغم كل هذه المحاذير، ويقدم هذه الدورة احتفالية خاصة بالسينما المصرية، وهناك أكثر من محاضرة وندوة مع نجومنا يسرى نصرالله وإلهام شاهين ومحمود حميدة ومدحت العدل ونيللى كريم، كما يعقد الباحث السينمائى علاء كركوتى ندوة موسعة عن مستقبل السينما العربية فى ظل التحديات العالمية، والمخرجان البلجيكيان الأخوان (داردين) لهما أيضا محاضرة، لتتواصل العروض على الشواطئ تقهر عشاق الظلام والدماء.