يبدو أن الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» على مدى سنوات حكمه الأربع المنصرمة، نسى أو تناسى أنه رئيس للولايات المتحدة «قلعة الحرية فى العالم»، وقرر منذ اللحظة الأولى لحكمها أن يسير على نهج وسلوك رؤساء الأنظمة المستبدة فى بلدان الشرق الأوسط، فلم يتردد- من وجهة نظرى- فى هدم دعائم الديمقراطية الأمريكية ومعاداة الإعلام والإعلاميين والتسلط على معارضيه وإقصائهم كلما أمكن والانتهاك الفاضح للقانون، تارة بإصداره عفوًا عن المجرمين على غرار ما حدث مع مقاولى شركة «بلاك ووتر»، المتورطة فى إزهاق العديد من أرواح المدنيين الأبرياء فى العراق وتارة ثانية باتباعه منهج التصفية الجسدية لبعض القيادات المتطرفة بعيدًا عن عيون القانون «قاسم سليمانى رئيس الحرس الثورى الإيرانى وأبوالمهدى المهندس نائب رئيس الحشد الشعبى نموذجًا» وتارة ثالثة بتراخى ترامب عن تقديم حزمة مساعدات للمتضررين الأمريكيين من فيروس كورونا رغم موافقة «الكونجرس» عليها قبيل أعياد الميلاد، ناهيك عن سياسته الخارجية المتسمة بالتطرف، والتى أقامها كليًا على استنزاف موارد العرب وتوسيع هوة الخلاف بينهم وضمان التفوق العسكرى الإسرائيلى عليهم والتقدم خطوات فى سبيل تصفية القضية الفلسطينية، فاعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها وسمح لرئيس الوزراء الإسرائيلى «نتن ياهو» بضم أجزاء من الضفة الغربية إلى الأراضى الإسرائيلية وأعطى الضوء الأخضر لبعض الأنظمة العربية لتطبيع مع الصهاينة ووقّع مع بعض بلدان الخليج صفقات بيع أسلحة بمئات المليارات بزعم حمايتها ومواجهة التهديد الإيرانى ووضع حد للتمدد الشيعى، ناهيك عن انسحاب ترامب من العديد من الاتفاقات والمنظمات الدولية المهمة، ومنها: «اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادى، اتفاقية باريس للمناخ، منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة اليونسكو، الميثاق العالمى للهجرة، الاتفاق النووى الإيرانى، مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، قطع الإمدادات عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين الأونروا، اتفاقية الحد من التسليح مع روسيا، منظمة الصحة العالمية».
لقد كان الرئيس الأمريكى المنتهية ولايته ولا يزال مُصِرًا على أن يحكم بمنطق القوة لا العقل، التسلط لا الحوار- يقرب إليه كل مَن يوافقه الرأى ويُقصى مَن يعارضه، يعمل على تفرقة الأمريكيين ويكرس بينهم التقسيم خدمة لمصالحه: هذا جمهورى مؤيد لترامب وهذا ديمقراطى ضد سياسات ترامب، هذا أمريكى وهذا وافد، هذا أبيض ينبغى حمايته وهذا أسود تسحله الشرطة، ينحاز للجمهوريين ثم يهاجمهم.
وزاد الطين بلة أنه بمجرد إعلان هزيمته أمام منافسه «جو بايدن» جُنّ جنون الرجل، وفقد لياقته السياسية والأخلاقية، فرفض الاعتراف بنتائج الانتخابات واعتبرها مزورة ومسروقة من جانب الديمقراطيين الفاسدين- على حد زعمه- وأنه لن يرضخ ولن يستسلم للهزيمة، وفى محاولة منه لتغيير الحقيقة لجأ لكافة المحاكم «المحلية والفيدرالية والمحكمة العليا» لكن دون جدوى، ومثلما فقد مقعده الرئاسى فقد الجمهوريون- بسبب تعنته وسياساته الفاشلة- الأغلبية فى مجلسى النواب والشيوخ، فلأول مرة، منذ عام 1932، تذهب تلك الأغلبية فى المجلسين إلى الديمقراطيين، وبدلًا من أن يقر ترامب بالهزيمة ويسلم طوعيًا بها، ويقبل بالانتقال الآمن للسلطة، يقرر الاحتكام إلى الشارع ويدعو أنصاره يوم الأربعاء الماضى إلى التظاهر احتجاجًا على الإجراء الشكلى المقرر، والذى سيوقع فيه أعضاء مجلسى الشيوخ والنواب على النتيجة النهائية لتسلم جو بايدن زمام حكم البلاد، وفى لحظات تغرق الولايات المتحدة فى الفوضى بعد أن احتشد الآلاف عند البيت الأبيض تأييدًا لترامب ثم توجه بعضهم لحصار مبنى الكونجرس ثم اقتحامه بعد الاشتباك مع الشرطة ويتم تعليق الجلسات إلى حين ويتوقف الزمن على المجهول.
لكن لا يصح إلا الصحيح، وبعد أن قررت عمدة «واشنطن» فرض حظر التجوال بداية من الساعة السادسة مساءً ونجح الأمن فى استعادة السيطرة على الفوضى الحاصلة، يعود المجلسان إلى الانعقاد والانتهاء من إجراء تنصيب الرئيس، ولا يتبقى لترامب إلا تعليق حساباته على «تويتر وفيس بوك وإنستجرام» وانتظار محاكمته فور خروجه من البيت الأبيض، وبذلك ضمن لنفسه بأن يبقى فى نظر الأمريكيين لا يصلح للترشح ثانية لرئاستهم، والأجدر به أن يكون رئيسًا لدولة من دول العالم الثالث.