نشرت صحيفة الوطن مقالاً للكاتب عبدالعظيم درويش بعنوان : ( مبارك برىء .. ولكن )
غير كثيرين منا من لم يصدمه حكم محكمة النقض ببراءة «مبارك» فى قضية قتل متظاهرى 25 يناير، فالملايين قد شعرت بإحباط شديد ولكننا جميعاً امتثلنا لهذا الحكم -باعتباره عنوان الحقيقة- فلا أحد منا يمتلك أدلة إدانته فى هذه القضية تحديداً بصرف النظر عن السبب سواء كان قد جرى التخلص منها أو أنها غير موجودة وأنه بالفعل برىء تماماً..!
ولأننا اعتدنا أن يكون فى كل شىء تعبير «ولكن»، فإن «ولكن» التى تتعلق بشخص «مبارك» تدور حول «إدانته» -وليس مجرد «اتهامه»- فى قضايا عدة تكشف أدلة إدانته فيها عن ملايين الضحايا الذين «فرمت» عجلات «قطار الفساد والإهمال» أجسادهم وأحالتها إلى مجرد أشلاء.. ملايين من زهرة شباب مصر قد «غيبتهم» أحاسيس الغربة والإحباط رغم أنهم يعيشون على أرض بلدهم.. ملايين ممن لفظتهم -ما تسمى فصول التعليم- إلى الضياع ليواجهوا الحياة دون أى سند علمى حقيقى عدا مجرد ورقة يُطلق عليها «شهادة التخرج».. أجيال دُفنوا تحت أنقاض الوساطة والمحسوبية التى سادت طوال فترة حكمه!
على مدى نحو 30 عاماً من حكم «مبارك» تحولت «مصر العفيّة القادرة» إلى مصر المرهقة.. مصر التى باتت مريضة تصطف أمام ما تسمى بـ«المستشفيات العامة» فى انتظار -ليس العلاج أو الدواء- بل التوقيع على شهادة وفاتها..!!
مصر التى أصبح مواطنوها يحتاجون خبيراً اقتصادياً لمعاونتهم فى مواجهة احتياجاتهم الضرورية بمرتب لا يسمن ولا يغنى من جوع لمدة أسبوع واحد فقط من الشهر بسبب الموجات المتلاحقة من ارتفاع الأسعار نتيجة إهمال الإصلاح على مدى هذه العقود الثلاثة وبدئه متأخراً.. مصر «المقاهى والكافيهات» التى أصبحت محلاً مختاراً لملايين من أبنائها نتيجة البطالة.. مصر «المعاشات» التى تعانى مأساة يومية فى كيفية تدبير ثمن دواء واحد من قائمة طويلة فرضتها على أصحابها ظروفهم الصحية، إذ لم يكن المواطن فى جدول أعمال ساكن قصر العروبة وحاشيته بل كان مجرد «رقم» يتراقص على حائط مبنى الجهاز المركزى بطريق صلاح سالم بالقاهرة..!
نعم مبارك «مُدان» فى إحالة حياة المواطن «المغلوب على أمره» -ومعظمنا يمثله- دوماً ثمناً لـ«فاتورة فساد» الدائرة التى تحيط بقصر العروبة، والذى ساد طوال هذه السنوات التى حكمنا فيها.. «مدان» عندما خرج أعضاء «مافيا البنوك» من مصر آمنين على عكس الآية الكريمة التى تتصدر واجهة مطار القاهرة بعد أن استولوا على أموال الشعب وصحبهم إلى مقاعدهم فى «طائرات الهروب» وزراء ومسئولون تتصدر صورهم الصفحات الأولى من الصحف، وتحمل مانشيتاتها أقوالهم المأثورة عن الصدق والنزاهة والأمانة والشفافية.. «مُدان» وقتما انتشرت «رائحة شواء» أجساد مواطنين غلابة فى قطار الصعيد، وأحالت العجلات الحديدية لغيرها من القطارات أجساد أبرياء آخرين إلى أشلاء يصعب جمعها.. «مُدان» عندما التهمت النيران التى اشتعلت بفعل الإهمال فى مسرح بنى سويف، العشرات من مثقفى مصر.. «مُدان» وقتما انتحرت «عبارة السلام 98» فى مياه البحر الأحمر وعلى متنها أكثر من ألف و400 مواطن، وظل مالكها ممدوح إسماعيل يتسكع حراً فى شوارع لندن حتى الآن، فـ«الفساد» قد سيطر على كل شىء وأى أحد إلى درجة أن المسئول الأول لم يحرك ساكناً سوى «موكبه» إلى الاستاد ليتابع مباراة لـ«كرة القدم»!
«مُدان» فى كل وقت يدعو فيه «سماسرة الموت» أسماك البحر المتوسط على «وليمة» من أجساد شباب طحنه اليأس والإحباط، وقتله الشعور بالغربة داخل وطنه، فراح يبحث عن أى فرصة عمل فيما وراء المتوسط فابتلعته أمواجه مثلما امتصته الغربة داخل حدود وطنه!
«مُدان» فى تلك الكوارث التى وقعت بسبب الإهمال وسحقت من الأبرياء أكثر مما حصدته حروب أهلية فى قارات العالم.. «مُدان» فى واقعة تمرد صخور المقطم على ذلك الواقع الذى يعيشه مهمشون فى «الدويقة» فأنهت حياتهم، وإن كان الأصح أن نقول أنهت «معاناتهم» وتحولت المنطقة إلى مقبرة جماعية لسكانها!
«مُدان» عندما انهارت عمارات اكتسبت شهرة واسعة بسقوطها: «لوران» بالإسكندرية.. و«عمارة عباس العقاد» بالقاهرة التى احتضنت ضحاياها ضمن أنقاضها وأصبحت تسكن فى قلب هؤلاء الأبرياء بدلاً من أن يسكنوا هم فيها.. «مُدان» فى كل مرة تبتلع فيها «مياه النيل» مواطنين غلابة فى صعيد مصر أو دلتاها ظنوا أن تلك المعديات سيعبرون بها إلى البر الثانى فعبرت بهم إلى قاع النيل.. «مُدان» عندما نتذكر أن من بيننا مواطنين ظلمهم موقعهم الجغرافى وخرجوا حتى عن هامش الاهتمام.. «مُدان» عندما خرج المئات حاملين الجراكن البلاستيك ينبهوننا إلى أن هناك قرى ومناطق بالكامل محرومة من مياه الشرب بصرف النظر عن لونها ورائحتها وطعمها.. «مُدان «عندما اكتشفنا أن هناك ملايين يعيشون تحت خط الفقر الذى التف حول رقاب العديد منهم فخنق معظمهم!
«مُدان» فى كل وقت أصيبت فيه خلايا أجساد مئات الآلاف سنوياً بالجنون، وتحولت إلى «خبيثة».. «مُدان» عندما رفعت «كُلى» ملايين المواطنين «الراية البيضاء» واستسلمت لـ«الفشل».. «مُدان» وقتما نهش فيروس «سى» أكباد ملايين من الغلابة بسبب التلوث والمبيدات المسرطنة دون أن يتحرك ضمير من كان يسكن قصر العروبة على مدى 30 عاماً.. كل هذا كان يحدث.. وفى النهاية يخرج مبارك «بريئاً».. ؟!