أقلام حرة

مقال للكاتبة ” فاطمة نعوت ” تحت عنون ( سانت كاترين… هنا نُصلّى معاً )

لو أمسكتْ مصرُ قلماً وورقة لتكتب تاريخَها العريق، هل تُراها عسراءُ، تكتب باليسرى؟ هكذا أراها دائمًا. ليس تحيّزًا للعسراوت مثلى، بل لأن يُمناها مشغولةٌ بتشييد الأثر الخالد الذى عَبَرَ الأزمانَ وجابَ مجدُه الأمكنةَ يصنعُ الحضارةَ ويؤرّخ للخُلد والفرادة.

نخلعُ نِعالنا، لنصلّى معًا. فنحن بالوادى المقدّس الذى باركته السماءُ. نخلعُ نِعالَ الطائفية والإقصاء. ونقفُ فى حضرة الله نعتذرُ إليه تعالى عن كلّ نقطة دمٍ أهدرتها الطائفيةُ البغيضةُ على أرضنا الطيبة. نقفُ ها هنا، فى باحة دير سانت كاترين لنُصلّى معًا على اختلاف عقائدنا وأعراقنا. نُرحّب بوفود العالم من سفراء وقناصلة ووزراء، جاءوا ضيوفًا على مصر ليشهدوا أثرًا مصريًّا من أقدم خوالد الدنيا، فى ضيافة اللواء أركان حرب خالد فودة، محافظ جنوب سيناء، ود. خالد العنانى، أستاذ علم المصريات ووزير الآثار، ود. محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف المثقف، والأب ديمترى ديميانوس، مطران الدير اليونانى المصرى، على شرف مؤتمر السلام العالمى الذى أشرق من مذبح الدير على وجه الأرض.

جئنا لنشهد على فرادة مصر التى خَصَّها اللهُ بما يليقُ بها من خصوصية واستثناء. مصر التى كتبت السَّطرَ الأولَ فى كتاب التاريخ، تحملُ مِسطرةَ مهندس، وإزميلَ نحّاتٍ، وريشةَ رسّامٍ، وقيثارةَ موسيقىٍّ، وقلبَ شاعرٍ لا يعرف إلا الحبَّ والخيرَ والجمال. وعلى ظهرها مِخلاةٌ من الكتّان المصرى داخلها ورقةُ بردى مُدوّنٌ عليها معادلات تركيب إكسير الخلود وحجر الفلاسفة، وفوق رأسها كان كتاب. كتابُ الحياة والخروج إلى النهار. وكان على مصرَ نهارٌ، فكان على الدنيا نهار. ها هى مصرُ تحمل مشعل نور يفيض على الأرض بالسلام والسماحة. أسجِّل على التاريخ اليوم أننى أشهد لحظة إطلاق «ميثاق سانت كاترين للسلام العالمى»، الذى يؤكد على أن «السلام» رسالةُ الأديان كافّة ووصيةُ الله للإنسان. وأن لا أمن ولا استقرار ولا بناء ولا حضارة إلا حيث يعمُّ السلامُ العادل. ننشدُ السلامَ الذى يقضى باحترام آدمية الإنسان كونه إنسانًا، أيًّا كان دينه أو عِرقه.

نباركُ السلامَ الذى يأمر بحق الإنسان الأصيل فى العيش الآمن على أرضه. السلام الذى ينصُّ على احترام مبدأ المواطنة المتكافئة وإعلاء شأن الدولة المدنية التى لا تعرف العصبيات العرقية أو الدينية أو المذهبية، تلك التى تدمّر الشعوب وتطوى الحضارات. السلامُ خصيمُ فيروس الإرهاب الذى يجوب الجغرافيات والحدود يهدد البشرية ويطعن خصر المنجز الحضارى.

وليس من سبيل للتخلص من ذلك الفيروس القاتل إلا باتحاد جميع بنى الإنسان يدًا واحدة قوية تقفُ فى وجه داعميه ومموليه وحاضنيه، خصوم البشرية أرباب الظلام الذين يكونون هم أولى ضحاياه، ولكنهم لا يعقلون.

جاءت وفود العالم لتملأ عيونَها من حُسن مصرَ التى أشرق فى واديها فجرُ الضمير الإنسانى، وغُزلت فى باحتها أولى حضارات الأرض. فالحضاراتُ تنشأ حيث ينشأ الضميرُ. وكان مولدُ الضمير فى بلادنا، وكان أولُ شعاعٍ من صبح الحضارة هنا فى تلك الأرض الشريفة: مصر. لهذا نحن هنا اليومَ فى أحد نهارات شهر أكتوبر الخريفية، نُطلقُ يدًا بيضاءً ناصعةً تلوّح بالسلام لكل الأرض، فكيف لا يكون سلامٌ فى قلبِها وبين قلوب بنيها؟.

نقفُ على الأرض المقدسة التى خلّدها الكتاب بقوله: «اخلع نعليك فإنك بالوادى المقدس طوى». الوادى الشريف الذى وطأه الأنبياءُ والرسلُ ليغدو حاضنةً للعقائد والمذهبيات تضمُّ آثار العقائد السماوية الثلاث. نرفعُ وجوهَنا للسماء نُمجّدُ الَله ونشكر فضله على مصر أمام جبل موسى، الذى من فوقه ناجى النبىُّ ربَّه وتلقّى وصاياه. من ورائنا شجرة «العُلّيقة» التى اشتعلت بالنور والنار لتدلّ موسى إلى حديث الله ولم تحترق. وعلى مرمى حجر يقف أنيقًا وطيبًا دير القديسة كاترين الذى يحجُّ إليه مسيحيو العالم، وترعاه قبائلُ مسلمةٌ من شرفاء المصريين، ويحتضن بين جدرانه الجامعَ الفاطمىّ.

أُشير إلى الدير وأهمس لمن حولى، هذا هرمٌ من أهرامات مصر الاستثنائية بحضارتها، التى لو تعلّمها النشءُ، لعرفوا أىَّ شرفٍ يحملون، ولاجتهدوا أن يكونوا أفضل شباب العالم وأكثرهم علمًا وتحضرًا وتسامحًا. طوبى لصُناع السلام.

زر الذهاب إلى الأعلى