وصلت مفاوضات سد النهضة بين مصر والسودان وإثيوبيا بمشاركة الولايات المتحدة الأمريكية والبنك الدولى إلى منعطف مهم عندما قررت إثيوبيا منفردة أن تمتنع عن حضور جولة المفاوضات الأخيرة.
كانت الجولات السابقة تعبر عن حالة من التقدم المطرد، خاصة فى قضايا بالغة التعقيد لها علاقة بملء الخزان، والتعامل مع التغيرات الطبيعية فى معدلات الأمطار السنوية، وبالذات فى أوقات الشح والجفاف.
كان ذلك تقدما كبيرا أخذ خمس سنوات لتحقيقه عبر خطوات من إعلان المبادئ، إلى المفاوضات الثلاثية، إلى مفاوضات واشنطن التى تعاملت مع القضايا الفنية تعاملا مرنا وبإيجابية تكفل المصالح الخاصة بدولة المنبع (إثيوبيا)، ودولة الممر (السودان)، ودولة المصب (مصر).
وصلت المفاوضات إلى مراحلها الأخيرة الخاصة بوضع النقاط على الحروف، والصياغة النهائية لاتفاقية حفظت السلام والاستقرار فى وادى النيل، ونجحت فى تحقيق المعادلة بين حق إثيوبيا فى الحصول على الكهرباء الضرورية للتنمية، وحق مصر والسودان فى الحماية من العطش والتنمية أيضا.
كانت المفاوضات تعنى ثلاثة أمور: أولها أن الدول الثلاث شركاء فى المصير، باعتبارها دولًا نامية لم تكن الأقدار رحيمة بها لركوب ركب التقدم فى الماضى، ولكنها الآن، ولأسباب مختلفة، تعطيها الفرصة الذهبية لتحقيق ما سبق من إهدار للزمن. وثانيها أن وجود الأطراف الثلاثة فى القضية يعنى تداخلها فى مصالح مشتركة تخص مياه النيل وتجعل بالضرورة نهر النيل نهرا دوليا بتعبيرات اليوم والعصر، لكنه مر بالشعوب منذ فجر التاريخ. وثالثها إذا كان الناس شركاء فيما يخص الماء والكلأ والمرعى فى الصحراء فإنهم فى وديان الأنهار يتشاركون بالجوار فى الماء والهواء ونور الشمس وضياء القمر. هى حقائق أفرزها الجوار، وفى هذا تختلف «الأنهار الدولية» عن «الموارد الطبيعية»، مثل البترول والغاز، التى يتطلب استغلالها إنفاقا لاستغلالها واستخراجها، ولذا فإن القانون الدولى للأنهار فرض ضرورة منع الضرر عن كل من كان واقعا على مجراها.
المفاوضات هى واحد من الأساليب السلمية لإدارة الأمور المختلف عليها، وهى هكذا بالنسبة للدول الطامحة للتنمية ذات طبيعة استراتيجية لأنها ليست استغلالا للوقت، أو تظاهرا بالسلم، وإنما هى من أجل التوصل إلى نتائج تعطى لكل الأطراف أملا فى المستقبل. وبالنسبة لمصر التى عرفت ويلات الصراعات فى الشرق الأوسط، وإثيوبيا التى عرفت نتائج الصراعات الداخلية والإقليمية، والسودان التى عاشت فى ذات الظروف، فإن المفاوضات تكون الوسيلة التى تعطى الفرصة وليس المخاطرة. الخبرة المصرية تقضى بأن الدبلوماسية والسياسة يمكنها أن تصل إلى الحقوق، ومن خبر الخبرات «الساداتية» من أجل استرجاع الأراضى المصرية سوف يعرف أنها تقود للاسترجاع ومعها السلام والتعاون وفتح طرق أكبر للأمن الإقليمى على جبهات متعددة. ولم تكن أوقات المفاوضات كلها سلسة ولا سهلة، وفى أحيان دخلت إلى منعطفات توقفت عندها، لكنها عادت مرة أخرى لأن الحساسية للظروف التاريخية والإقليمية وحتى الداخلية أيضا كانت كافية لكى تعود الأمور إلى نصابها وفى الطريق الذى يحقق مصالح كافة الأطراف. الحجة الرئيسية للفريق الإثيوبى هى أنه يحتاج وقتا للتشاور الداخلى مع أطراف الساحة السياسية التى تستغل الموقف لخدمة مصالح ضيقة. مثل ذلك وارد فى دول كثيرة، ولكن المعضلة تكون عندما يستغل ذلك لتغيير الأمر الواقع ثم العودة إلى المفاوضات للتعامل مع ما هو مفروض. الرسالة الأمريكية وموقف البنك الدولى كانا واضحين، أن الحصول على التأييد من الجبهة الداخلية وجهة نظر يمكن تقبلها، ولكن بدء تخزين المياه يجعل العودة إلى مائدة المفاوضات ضرورية، خاصة أن الاتفاق جرى على تحقيق المصلحة الإثيوبية فى وقت الفيضان القادم لتوليد الكهرباء، ولكن بعد التوقيع الذى يحقق مصالح بقية الأطراف.
الرئيس السيسى وفريق التفاوض المصرى فى وزارة الخارجية ووزارة الرى نجحوا فى حماية المصالح المصرية خلال المراحل الثلاث من المفاوضات، فكان إعلان المبادئ هو الذى أخذ القضية من الجدل حول حق الإخطار ببناء السد والتعامل مع الواقع باعتباره بات قضية مشتركة تحقق أهدافا مشتركة بالنسبة لنهر دولى له تاريخ بدأ من الأزل. وعندما وصلت المفاوضات إلى منعطف السباق مع الزمن كان وضع المسألة برمتها فى سياق دولى له علاقات وثيقة مع الأطراف المعنية، وبجواره منظمة دولية هى جزء من النظام الدولى وقوانينه التى سبق تطبيقها فى أمور مشابهة. والآن مع المنعطف الجديد فإن بعضا من الصبر أحيانا يكون ضروريا، ولكن الصبر ليس سكونا للزمن، وإنما هو فرصة للتشاور أيضا مع الأشقاء العرب، وبقية الدول الأعضاء الدائمين فى مجلس الأمن، وكل من لديهم خبرة ومعرفة بطبيعة عمل الأنهار الدولية.