الثقافة هى إحدى الخدمات التى يقع على الدولة مسؤولية المشاركة فى تقديمها للمواطن. ومعركة الوعى التى أصبحنا ندرك أهميتها، تتطلب أن يكون للدولة دور أكبر فى بناء القيم الثقافية للمجتمع، وخاصة الشباب، ولا تتركهم لمن يتلاعب بأذواقهم وأفكارهم.
فكرة رائدة بدأ يطبقها عدد من الدول الأوروبية، كان آخرها فرنسا وقبلها إيطاليا، وستلحق بهما إسبانيا فى العام القادم، جديرة بالتأمل فى مجال تقديم الدولة خدمة ثقافية للشباب، والمساهمة فى تقريبهم من الثقافة الجادة، والتخفيف من الأعباء المادية التى يحتاجها الشباب لاستهلاك هذه الثقافة.
ففى شهر مايو الماضى، أعلن الرئيس الفرنسى ماكرون أن حكومته ستقدم لكل شاب يبلغ ثمانية عشر عاما بطاقة ثقافية، أو بالأحرى منحة بمبلغ ثلاثمائة يورو يستطيع أن ينفقها على شراء منتجات ثقافية خلال عامين.
ويستهدف ماكرون من هذا البرنامج تحقيق عدد من الأهداف، أولها تشجيع الشباب الفرنسى على استهلاك الثقافة، وخاصة الجادة منها، حيث يستطيع الشاب استخدام بطاقة الثقافة الخاصة به فى شراء الكتب أو حجز تذاكر للحفلات الموسيقية والمسرح والأفلام أو دخول المتاحف. كما يمكن استخدامها فى الاشتراك بالصحف وبدورات تدريبية وورش عمل مثل الرسم، الموسيقى، دروس تصوير، وغيرها.
وحتى لا يتجه الاستهلاك الشبابى إلى المنتجات الرقمية فقط، حددت بطاقة الثقافة حدًا أقصى قدره مائة يورو للسلع الرقمية (الكتاب الإلكترونى، وألعاب الفيديو.. إلخ)، وذلك من أجل إتاحة الفرصة للشباب لاكتشاف وتنويع ممارساتهم الثقافية.
الهدف الثانى لدى ماكرون هو مساندة الصناعات الثقافية الفرنسية التى تعرضت لخسائر ضخمة بسبب جائحة كورونا، حيث إن الإنفاق من خلال البطاقة الثقافية سوف يتم ضخه فى صناعة الثقافة والفنون المتعثرة.
.. وهو ما يعكس أيضا حرص فرنسا على الحفاظ على مكانتها المتقدمة فى ترتيب القوى الناعمة فى العالم (حصلت على الترتيب الأول عام ٢٠١٩ فى الدراسة الخاصة بترتيب أهم ثلاثين قوة ناعمة فى العالم)، وبالتأكيد تساهم صناعة الثقافة الفرنسية فى تحقيق هذه المكانة، علما بأن المخصصات التمويلية للبرنامج لا تأتى فقط من الحكومة، بل ساهم معها عدد من شركاء القطاع الخاص.
هناك أيضا هدف سياسى لماكرون يتعلق بالحصول على تأييد الشباب، وأصواتهم فى الانتخابات الرئاسية القادمة، حيث إن سن الاقتراع فى فرنسا هو ١٨ عاما، وبالتالى يسعى لتأمين هذا الصوت الشبابى الجديد.
البطاقة الثقافية يتم تفعيلها من خلال تطبيق على الإنترنت، يتيح استخدام المبلغ المخصص لكل شاب من خلال خيارات متعددة، ويتم بواسطته الحجز للأنشطة أو شراء المنتجات الثقافية.
البرنامج حقق نجاحًا كبيرًا، واجتذب التطبيق أكثر من ٧٨٢ ألفًا من البالغين ١٨ عامًا، وسيتمكن ٢ مليون شاب جديد من الاستفادة منه فى العام المقبل.
أرقام الاستهلاك الثقافى إيجابية أيضا، وتوضح أن ٧٨٪ اتجه إلى الكتب، و٦.٩% للموسيقى (حفلات أو أقراص مدمجة، واشتراك فى برامج استماع للأغانى)، ٥٪ للسينما، ٥٪ اشتراكات قنوات سمعية وبصرية، و٢٪ ممارسات فنية (الاشتراك فى دورات تعليمية للرسم، الموسيقى، الرقص، أو شراء الآلات الموسيقية).. إلخ. وتشير الإحصائيات إلى أن الشباب قاموا بشراء كتب روايات الرسوم الكارتونية الشهيرة، ولكنهم اشتروا أيضا العديد من الكتب ذات الموضوعات الجادة، وقاموا بزيارة متاحف، وحضروا العديد من العروض الفنية الرصينة، والكثير منهم كان يفعل ذلك للمرة الأولى.
نجاح هذا البرنامج الفرنسى (الذى طُبق برنامج شبيه له فى إيطاليا عام ٢٠١٦) دفع رئيس الوزراء الإسبانى بيدرو سانشيز إلى الإعلان عن برنامج مماثل سيتم تطبيقه عام ٢٠٢٢، وسيحصل بمقتضاه الشباب الإسبان البالغون من العمر ١٨ عاما على قسيمة بقيمة ٤٠٠ يورو للإنفاق فى مجالات ثقافية مختلفة، وتحدث رئيس الوزراء عن الكتب وأى نوع من النشاط الفنى، مع ذكر خاص للمسرح أو السينما أو الرقص أو الموسيقى.
وتمت الإشارة أيضا إلى أن البرنامج يستهدف حماية الشباب وتقريبهم من الثقافة، بالإضافة إلى مساعدة الصناعة الثقافية فى البلاد، التى عانت بشدة من عواقب وباء كورونا. وقد لقيت المبادرة ترحيبًا كبيرًا فى أوساط الشباب والقطاع الثقافى.
مثل هذه البرامج قابلة للتطبيق فى بلدان أخرى، سواء متقدمة، أو نامية مثل مصر. ودون الدخول فى تفاصيل حجم الإنفاق الحكومى المطلوب وتلاؤمه مع ظروفنا الاقتصادية، وحدود مشاركة القطاع الخاص والمدنى فى التمويل، والمخصصات الموجهة كل شاب، والفئة العمرية التى ستستفيد منه.
إن هذا البرنامج يساعد على نشر الثقافة الجادة بين الشباب، ويساهم فى معركة الوعى وبناء المستقبل. كما أن الإنفاق الثقافى سوف يساعد صناعة الثقافة المصرية (الخاصة والعامة) على التعافى من آثار جائحة كورونا، والحفاظ على قوة مصر الناعمة التى تنتجها هذه الصناعة. وأخيرًا، ليس بالخبز به وحده يحيا الشباب.